بحث متقدم
الزيارة
6334
محدثة عن: 2011/09/22
خلاصة السؤال
هل یُمکن اثبات الله عقلیاً بصورة قطعیة مع أن قانون العلیة أیضاً مشکّک فیه و یحتاج بدوره الی اثبات؟
السؤال
هل یمکن إثبات وجود الله عن طریق العقل؟ و إذا کان الجواب إمکان ذلک عن طریق برهان الوجوب و الإمکان الذی یُثبت بدوره علی أساس العلیة، فکیف یُمکن إثبات نفس قانون العلیة؟ و إذا أمکن إثبات الله بصورة قطعیة، فکیف نجد بعض الفلاسفة الغربیین ملحدین أو لا أدریین؟ هل یمکن لأحد یوماً أن یأتی ببرهان علی عدم وجود الله؟
الجواب الإجمالي

من الطبیعی إمکان إثبات وجود الله بقاطعیة تامة عن طریق البرهان العقلی و من ثمّ تأخذ کل الإشکالات الواردة علی هذه البراهین سیرها الخاص فی الفلسفة الغربیة و فی النتیجة تُطرح أمواج التشکیکات التی تُسقط العقل الجزئی عن مقام الحجیة، لکن هذا الأمر لا یُمکن أن یکون بمعنی رد وجود الله سبحانه. علماً بأنه لا یمکن إقامة أی برهان علی عدم وجود الله، و ذلک لأن من ردّ وجود الله ردّ ما کان مجهولاً بالنسبة له، و کیف یُمکن للشخص الذی لا یعلم بوجود شیء یمکنه أن یثبت عدم وجوده بالبرهان القاطع. غایة الأمر انه یمکنه ادعاء عدم إمکان ادراک هذا الشیء المجهول بالنسبة له أو عدم إمکان اثبات وجوده.

الجواب التفصيلي

لقد ثبت بالبرهان القاطع وجود الخالق لهذا العالم، لکن العقل البشری فی حین إثبات أصل وجود الخالق نجده عاجزاً عن درک کنه الله سبحانه و حقیقته، و یجده ماوراء الذهنیات و المتصوّرات. فالعقل السلیم یذعن بانه حادث و معلول و کذلک کل الظواهر التی یُمکن التعرّف علیها لا یجدها مستغنیة عن العلة، و ذلک لأن العقل یدرک بأن عالم الإمکان فی معرض التغییر و التحوّل و الزوال دائماً، و یحتاج بإستمرار الی علة أعلی منه.

ثم ان الاشکالات و التشکیکات الواردة فی بحث العلیة لا یُمکن أبداً أن تکون بمعنی قطعیة و عقلیة عدم حاجة المعلول الی العلة، أو بمعنی الاستقلال و عدم الحاجة فی الممکّنات بل إنه تشکیک فقط و لم یصل الی حد الإثبات، سوی انه یزعزع أرکان العقل الجزئی المنقطع عن الوحی.

فعلی هذا فحتی التشکیک فی حجیة العقل لا یُمکنها أن تثبت عدم وجود الله، و هذه التردیدات لحد الآن لم تستطع أن تزلزل یقین المتیقّنین باحتیاج الممکنات المستمر الی العلة و تلزمهم بالتردید فی هذا الأصل.

و لتوضیح هذا المطلب نقول: ان کل التشکیکات الواردة علی أصل مسألة العقل و الاستدلالات العقلیة و الذهنیة و التی تنتهی إلیها الفلسفة الغربیة (المعتقدة بأن کل ما یُمکن إثباته عن طریق الذهن یمکن أن ینکر بنفس هذا الطریق) لیست بمعنی رد وجود الله سبحانه، بل هی فقط للإفصاح عن هذه الحقیقة و هی ان الله و الیقین بوجوده یجب أن یبحث فی ماوراء الذهنیات، لأن الذهن و بصورة ذاتیة فی معرض التزلزل و التضاد و التشکیک و مادام الذهن غیر متحد مع القلب سوف لا ینقطع عنه الشک، و لا یعتبر تعقید الاستدلالات العقلیة مفتاحاً لحل المسألة.

فالطریق المسدود الذی وصل إلیه "الغرب الفلسفی" فی وجود الله سبحانه ناجم عن انهم فی فترة ارادوا ادراک کل الحقائق من زاویة الإثبات العقلی –العقل الجزئی و التجربی- و فی فترة اخری اعتقدوا بأن تصوّراتهم الذهنیة کلها کانت لغواً حیث یئسوا من العقل بصورة کاملة، فی فترة اتخذوا منهج التبعیة الکاملة للعقل، و فی فترة اخری جعلوا طریق نجاتهم فی المخالفة الکاملة لحجیة العقل. و لکن کلا هذین الأمرین أی "الافراط و التفریط" الحاصلین فی هذا المسیر، ناجم عن الانحراف فی المعرفة الإنسانیة، و هذه أیضاً لیس لها علة سوى ابتعاد الإنسان عن فطرته السلیمة.

بالتالی، فالتشکیک فی البراهین الفلسفیة فی الفلسفات الغربیة لا یکون بمعنی التشکیک فی الإیمان بالله سبحانه، بل هو فی الواقع بمعنی التشکیک فی قدرة العقل علی اثبات وجود الله؛ نحن نعلم ان طریق الوصول الی الله و الیقین بوجوده معرفة قلبیة و باطنیة نفسیة، و التمرکز الصرف علی المباحث الفلسفیة و الاستدلالیة لیس له حاصل إلا التشکیک فی نفس هذه الفلسفات.

إذن خلاصة الأمر یجب القول: بأن برهانیة وجود الله تعالی بدلالة العقل السلیم أمر واضح لا ریب فیه، أما الإیمان الکامل بالله و وجوده یحتاج الی قلب عارف حتی یثمر الیقین فی قلب الإنسان، و محوریة العقل الجزئی و الحسابات الکمیة و العلمیة الدقیقة جداً فی هذه المحاسبات هی بمعنی التبعیة العفویة للعقل الاستدلالی و العلوم التجربیة و التکنولوجیة، و لیس لها حاصل إلا التشکیک المستمر فی کل شیء.[1] و هذا طریق طوته المعرفة الإنسانیة فی تاریخ فلسفة الغرب من الیونان و الی العصر الحاضر، و قد بدأ بالتبعیة الکاملة للعقل الجزئی و انتهی بالتردد و التشکیک فی نفس هذا العقل.

و لکن هذا السیر الفکری لا یُمکن بأی صورة أن یکون بمعنی عدم اعتبار الإیمان بالله تعالی؛ و ذلک لأن طریق الإیمان و الوصول الی الله یأتی دائماً عن طریق الفطرة فی عین اعتضاده بالمبانی العقلیة الفلسفیة، لذلک نحن نعثر فی کل عصر علی من یجد الیقین بالله و یُمکنه الوصل الی المعرفة الإیمانیة و القلبیة و ذلک إذا حظی بالصدق و العدالة و سلامة القلب.

نتساءل الآن: هل یُمکن للعقل الجزئی الذی لا یعقل سوی الماهیات و الذی محوره ذهن الإنسان، ان یرد الحقیقة الإلهیة و أن یقیم برهاناً علی عدم وجود الباری، فی حین إنه –علی حسب ادعائه- یشکک حتی فی أکثر الامور الاستدلالیة یقینیة؟.

و الاجابة عن هذا السؤال واضحة و لا تحتاج الی بیان؛ و ذلک لأن غایة نزاع العقل الجزئی هو إنه یشکک حتی فی حجیته فکیف لهذا العقل و بأی وسیلة یرید ردّ وجود الله بصورة یقینیة و قطعیة؟

و بعبارة اخری، کیف یتأتی لمن لا یعرف شیئاً ما و هو دائماً فی حال الظن و الریبة أن یثبت قطعیاً عدم وجود ما لا یعرفه؟!.

و من المناسب جداً بعد إثبات هذا البحث أن نشیر الی روایة متضمنة لحوار بین الإمام الصادق (ع) و شخص دهری منکر لحدوث العالم لو جرّدناها عن الخصوصیات الزمانیة و المکانیة یکون لها ارتباط دقیق ببحثنا و هی: عن علیّ بن منصور قال: قال هشام بن الحکم: کان بمصر زندیقٌ تبلغه عن أبی عبد الله أشیاء فخرج الی المدینة لیُناظره فلم یُصادفه بها و قیل له: إنّه جارج بمکة فخرج إلی مکة و نحن مع أبی عبد الله (ع) فصادفنا و نحن مع أبی عبد الله (ع) فی الطواف ... فقال أبو عبد الله (ع): إذا فرغت من الطواف فأتنا فلما فرغ أبو عبد الله (ع) اتاه الزندیق فقعد بین یدی أبی عبد الله (ع) و نحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد الله (ع) للزندیق: أتعلم ان للأرض تحتاً و فوقاً؟ قال: نعم، قال: فدخلت تحتها؟ قال: لا، قال: فما یدریک ما تحتها؟ قال: لا أدری إلا إننی اظنّ ان لیس تحتها شیء. فقال أبو عبد الله (ع): فالظن عجز لما لا تستیقن، ثم قال أبو عبد الله (ع): افصعدت السماء؟ قال: لا، قال: أفتدری ما فیها؟ قال: لا، قال: عجباً لک لم تبلغ المشرق و لم تبلغ المغرب و لم تنزل الأرض و لم تصعد السماء و لم تجز هناک فتعرف ما خلفهن و أنت جاحد بما فیهن و هل یجحد العاقل ما لا یعرف؟! قال الزندیق: ما کلمنی بهذا أحدٌ غیرک، فقال أبو عبد الله (ع): فأنت من ذلک فی شک فلعله هو و لعله لیس هو؟ فقال الزندیق و لعل ذلک؛ فقال أبو عبد الله (ع): أیها الرجل! لیس لمن لا یعلم حجة علی من یعلم و لا حجة للجاهل یا أخا مصر! تفهّم عنی فإنا لا نشک فی الله أبداً".[2]

لمزید من المطالعة فی هذا البحث یرجی مراجعة المواضیع التالیة:

إمکان إقامة الدلیل العقلی علی رد الله، 12196 (الموقع: 11961).

ما هو العقل، 11343.



[1]  کما أن هذه العلوم التی دائماً فی حال تغیّر و نفس المسألة أیضاً غیر ثابتة، نفهم منها أصلاً علمیاً، و هو أن لا وجود لأی شیء مسلم بوجوده فی هذه النظریة.

[2]  الکلینی، الکافی، ج1، ص57-58، المکتبة الإسلامیة، طهران، 1388 هـ.ق.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279435 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257246 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128142 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113244 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88997 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59835 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59551 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56855 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49735 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47165 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...