بحث متقدم
الزيارة
8533
محدثة عن: 2007/02/20
خلاصة السؤال
فی أی شیء تکمن سعادة الإنسان و کماله؟
السؤال
فی أی شیء تکمن سعادة الإنسان و کماله؟
الجواب الإجمالي

الجواب الشامل عن هذا السؤال ینطوی ضمن الإجابة عن سؤالین أساسین.

السؤال الاوّل: ما معنی السعادة؟ و هل أنها تختلف عن الکمال أم لا؟ السؤال الثانی: ما المراد من الإنسان، و أی نوع من أنواع الموجودات هو؟ هل أنه موجود مادی صرف أم ....؟

لیس للسعادة انفصال و انفکاک عن الکمال، و بالقدر الذی یحصل علیه الإنسان من الکمال یکون قد حصل على السعادة بنفس المقدار، فالإنسان موجود مرکب من روح و بدن، و إن الروح هی جوهر وجود الإنسان، و سعادة الروح و البدن هی فی أن یصل کل واحد منهما إلى کماله الوجودی.

و سر سعادة الروح کامن فی القرب من الله سبحانه و تعالى و الوصول إلیه، و فی هذه الصورة تکون الروح قد بلغت غایة کمالها، کما أن التمتع بسلامة البدن و الاستفادة من الإمکانات المادیة یعد من السعادة فی بعض الروایات الإسلامیة، و قد یرى البعض أن السعادة لا علاقة لها بالکمال أو أنه یتبنى رأیاً آخر فی میدان معرفة الإنسان و ما یتعلق به، و کل من هذین الرأیین وقع مورداً للنقد کما هو مبین فی محله. فقد افترض عدد من المفکرین أن الإنسان موجود مادی و أن طریق سعادته یمر من خلال إشباع رغباته و لذائذه المادیة، بینما یرى البعض الآخر ـ کما یقول الفلاسفة ـ بأن العقل هو جوهر الإنسان الحقیقی، فیما یذهب بعض من أهل العرفان إلى أن العشق هو معیار الإنسانیة و مقیاسها و... و حیث أن الجمیع لم یر الحقیقة کما هی، فقد سلکوا طریق الظنون و الخیال.

الجواب التفصيلي

الجواب الشامل و الدقیق عن هذا السؤال یقتضی بیاناً صحیحاً لمفهوم السعادة و معرفة صحیحة لطبیعة الإنسان و مکوناته و أهدافه. فقد اعتقد البعض من أمثال "کانت" بأن السعادة منفصلة عن الکمال، و من أقواله أنه لا وجود فی الدنیا إلا کمال واحد لا غیر، و هذا الکمال و الخیر یتمثل فی الإرادة الخیرة، و معنى الإرادة الخیرة هی أن یکون الإنسان مطیعاً لأوامر ضمیره و وجدانه. سواء کان یتبع ذلک ارتیاح أم لم یکن.

أما السعادة فهی عبارة عن اللذة و الانشراح الذی لا یشوبه کدر و عناء، و أن للأخلاق ارتباطاً بالکمال لا بالسعادة.[1] أما العلماء و الفلاسفة و الأخلاقیون الإسلامیون فیقولون: بالقدر الذی یتمتع به الإنسان من الکمال - و کلما کان قریباً من غایته - یکون قد وصل إلى سعادته،[2] و إنهم لا یقبلون بمقولة "کانت" فی الفصل بین الکمال و السعادة، نعم اذا ما أرید من السعادة التمتع باللذات المادیة الحسیة، فمن الطبیعی أن یکون الکمال بعیداً عن مثل هذه السعادة[3]. و من جانب آخر فإن نظریات المدارس الفکریة المختلفة فیما یخص الإنسان هو السبب الذی جعل آراءها متفاوتة بالنسبة إلى السعادة.

فالمدرسة التی تفترض أن الإنسان موجود مادی، لا بد و أن ترى أن سعادته منحصرة فی عالم المادة و بمقدار ما یحصل علیه فی تأمین حاجاته و متطلبات حیاته، فکمال الإنسان یتوقف على مقدار ما یحصل علیه من اللذائذ المادیة (على المستوى الفردی و الاجتماعی). و أما أولئک الذین یرون أن العقل هو معیار الإنسانیة، فالسعادة فی رأیهم تتمثل بانفتاح العقل و اتساعه من خلال المعارف الإلهیة و الحقائق الثابتة. و أما أهل العرفان فقد توجهوا إلى الباطن و عذاب الهجران، و قالوا إن عذاب الإنسان و آلامه ناشئة عن ابتعاده عن موطنه الأصلی. و إن سعادته بمقدار عشقه و وصاله. و هناک جمع من أمثال "نیتشه" یرون أن القدرة و القوة هی أساس کل شیء. فالإنسان السعید هو الإنسان القوی المقتدر.

و أما على أساس النظریة الإسلامیة (التی أقرت مقولة العقل و العشق) فقد عرّف الإنسان على النحو التالی: إنه موجود ینطوی على استعدادات مختلفة و هو مرکب من روح و بدن، و لم یکن مادیاً صرفاً[4]، و إن حیاته الواقعیة و الأساسیة فی عالم الآخرة. فقد خلق لیکون أبدیاً، و إن أفکاره و أعماله و أخلاقه هی التی تبنی جسده الأخروی و ... و على هذا الأساس فسعادة الإنسان تتوقف على تفجیر استعداداته المختلفة و الاستجابة المناسبة لحاجاته الروحیة و الجسمیة، یقول العلامة الطباطبائی: إن سعادة کل شیء هی عبارة عن وصوله إلى خیر وجوده، فسعادة الإنسان الذی هو مرکب من روح و بدن هی فی وصوله إلى خیرات الجسم و الروح و التنعم بها.[5]

فالروح التی هی من الله «وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی»[6] تکون سعادتها فی التقرب إلى الله، أی بالرجوع إلى مبدأ نشأتها. و بعبارة أخرى فإن الروح هی جوهر الإنسان، و منشأها من عند الله (إنا لله) و من خلال طیها للمراحل فی عالم الطبیعة الذی ألقت فیه رحل إقامتها، فإن سعادتها تتمثل بعبورها من عالم الطبیعة بواسطة مرکب العشق و الموت الاختیاری[7] لتصل إلى مبدئها الذی ترتبط به، المتمثل فی (و إنا إلیه راجعون)، و مثل هذا الإنسان و إن کان بدنه متواجداً فی هذه الدنیا فإن روحه متعلقة بمکان آخر.[8]

و من الطبیعی أن لا یکون معنى هذا، الإعراض عن متطلبات الحیاة الدنیا المادیة، لأن الحصول على السلامة و التنعم بالخیرات المادیة و... معدودة من سعادة الإنسان، و قد جاءت التوصیات بالمحافظة على سلامة البدن و تقویته من خلال رعایة قواعد الصحة و السلامة، ذلک لأن الجسم السلیم هو شرط فی سلامة الروح.[9] و لکن المقصود هو أن الروح هی جوهر الإنسان و حقیقة هویته، و إن الهدف من خلق هذا الموجود هو التقرب إلى الله سبحانه «یَا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِی إِلَى رَبِّکِ رَاضِیَةً مَرْضِیَّةً * فَادْخُلِی فِی عِبَادِی * وَ ادْخُلِی جَنَّتِی»،[10] أو کما جاء فی آیة أخرى: «یَا أَیُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّکَ کَادِحٌ إِلَى رَبِّکَ کَدْحاً فَمُلاقِیهِ»،[11] و قوله تعالى: «فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیکٍ مُقْتَدِرٍ»،[12] أو کما جاء فی قوله تعالى: «وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإِنْسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ».[13] و العبادة هی وسیلة للتقرب إلى الله تعالى: «وَ اسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ»،[14] و لهذا یمکن القول کلما تقرب الإنسان من الله أکثر فإنه یحصل على سعادة أوفر.

و لیس الصلاة وحدها هی وسیلة التقرب إلى الله، فالسعی فی حاجات الناس و خدمة العباد لا تخرج عن إطار العبادة و إنما هی فی سیاقها و وجه من وجوهها.

یقول العلامة الطباطبائی:[15] إن الأشیاء التی نعدها من النعم بالنسبة للإنسان، هی نعم فی صورة کونها تتفق مع الغرض الإلهی من خلقها و إیجادها. لأنها خلقت من أجل أن تساعد الإنسان و تعینه و هو یکدح فی طریق سعادته الحقیقة المتمثلة فی القرب من الله سبحانه من خلال عبودیته و تسلیمه فی مقابل قدرة خالقه، الذی قال سبحانه: «وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ».



[1] المطهری، مرتضى، فلسفه ی اخلاق" فلسفة الأخلاق،" ص70 - 71.

[2] مفهوم السعادة فی کتب الأخلاقیین یعتبر رکناً من أرکان الاخلاق، راجع معراج السعادة، ص 18 و 23.

[3] المطهری، مرتضى، فلسفه ی اخلاق "فلسفة الأخلاق،" ص 72.

[4] الحجر، 29؛ المؤمنون، 12 ـ 14.

[5] الطباطبائی، محمد حسین، تفسیر المیزان، ج11، ص28.

[6] الحجر، 29؛ ص ، 72 {فَإِذَا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی}.

[7] الموت الاختیاری هو مجاهدة النفس و قتلها، کما جاء عن الإمام علی (ع): "قد أحیا عقله و أمات نفسه" نهج البلاغة، الخطبة 220.

[8] مِنْ کَلَامٍ لَهُ (ع) لِکُمَیْلِ بْنِ زِیَادٍ النَّخَعِی:"...صَحِبُوا الدُّنْیَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى"‏، نهج البلاغة، رقم الکتاب 147.

[9] أصول الکافی،ج 20، ص 550.

[10] الفجر، 27.

[11] الانشقاق، 6.

[12] القمر، 55.

[13] الذاریات، 56.

[14] البقرة، 45.

[15] الطباطبائی، محمد حسین، تفسیر المیزان، ج 5، ص 281.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279435 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257247 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128143 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113244 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88997 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59837 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59551 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56856 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49738 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47165 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...