بحث متقدم
الزيارة
6495
محدثة عن: 2008/11/04
خلاصة السؤال
ما المراد بأسطورة الغرانیق؟
السؤال
یرجى إعطاء التوضیحات بخصوص أسطورة الغرانیق، حیث قیل فیها أن الشیطان تمکن من خداع النبی (ص) و امتدح الأصنام؟.و لو لم یکن لها سند معتبر، فما هو مصدر هذه الأسطورة؟
الجواب الإجمالي

أسطورة الغرانیق من صنع أعداء الإسلام و القرآن، و هدفهم فی وضعها إضعاف منزلة القرآن و الانتقاص من قدر النبی الأکرم (ص). و قد قالوا فی الأسطورة: کان النبی (ص) منشغلاً بقراءة سورة النجم فی مکة، و عندما وصل إلى الآیة التی تذکر أسماء أصنام المشرکین فی قوله تعالى: «أفرأیتم اللات...»، ألقى الشیطان «و العیاذ بالله» جملتین على لسان النبی (ص) و هما: «تلک الغرانیق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى»! و عندها سجد النبی (ص) فسجدوا معه، فنزل جبرائیل ینذر النبی (ص) بأنه لم یأتِ بهذا الکلام و أن الشیطان ألقى الجملتین على لسانه.

و هناک الکثیر من القرائن و الشواهد تثبت أن هذا الحدیث موضوع و مفتعل، و لذلک أجمع علماء المسلمین سنة و شیعة على رد هذا الحدیث بقوّة و نسبوه إلى وضع الوضاع.

الجواب التفصيلي

نقلت روایات عجیبة عن ابن عباس بخصوص أسطورة الغرانیق فی کتب أهل السنة و من جملتها: کان النبی منشغلاً بقراءة سورة النجم فی مکة، و عندما وصل إلى الآیات التی تذکر أصنام المشرکین و ذلک فی قوله تعالى: « أَفَرَأَیْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى * وَ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى»[1] أجرى الشیطان جملتین على لسان النبی: «تلک الغرانیق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى»[2] و قد انشرح المشرکون لهذا الکلام و أبدوا ارتیاحهم و قالوا: «ما زال محمد یذکر آلهتنا بخیر» و عندها سجد النبی و سجد المشرکون معه. فنزل جبرئیل و أخبر النبی بأنه لم یأتِ بالجملتین مع ما أوحی له، و أن هذا الکلام من عمل الشیطان و خدعه، فنزلت الآیات مورد البحث فی قوله تعالى: «وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِیٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّیْطَانُ فِی أُمْنِیَّتِهِ فَیَنْسَخُ اللَّهُ مَا یُلْقِی الشَّیْطَانُ ثُمَّ یُحْکِمُ اللَّهُ آیَاتِهِ وَ اللَّهُ عَلِیمٌ حَکِیمٌ» کإنذار للنبی و المؤمنین.[3]

و مع أن الکثیر من المتربصین بالإسلام و ما یبدون من محاولات للحط من منزلة النبی (ص) قد نقلوا الروایة ظناً منهم أنهم وجدوا فرصة ملائمة لتحقیق أهدافهم، فأعطوها أکبر من حجمها و أضافوا إلیها الکثیر. إلا أن القرائن و الشواهد الکثیرة دل على أن هذه الروایة موضوعة تستهدف سلب القرآن و کلام النبی ما یتمتع به من قوة و تأثیر من خلال إلصاق صفة الشیطانیة به، و من الأدلة على وضعها:

أولاً: یقول المحققون أن رواة هذا الحدیث من الضعفاء و غیر الموثوقین و أن صدور الروایات عن ابن عباس لیس بالأمر المعلوم. و کما یقول «محمد بن اسحاق» إن هذا الحدیث من وضع الزنادقة، و قد کتب کتاباً بهذا الموضوع.[4]

ثانیاً: وردت روایات و أخبار کثیرة فی مسألة نزول سورة النجم و سجود النبی (ص) و المسلمین و فی کتب مختلفة، و لم یکن لأسطورة الغرانیق أثرٌ یذکر فی هذه الکتب، مما یدل على أن هذه القضیة زیدت على الروایات فی وقت متأخر.[5]

ثالثاً: إن الآیات الواردة فی صدر سورة النجم تنفی هذه الأسطورة بصراحة فإذا کان تعالى یقول: «و ما ینطق عن الهوى»،[6] فکیف تنسجم هذه الآیة مع ما تدل علیه أسطورة الغرانیق؟

رابعاً: إن الآیات التی جاءت بعد ذکر أسماء الأصنام سیقت لذمها حیث صرحت بذلک: «إِنْ هِیَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُکُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى»،[7] فکیف ینسجم هذا الذم الشدید مع المدح المدعى فی الآیات المتقدمة، إضافةً إلى أن الله تعالى صرح بأن القرآن محفوظ من کل تحریف و «لا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِیلٌ مِنْ حَکِیمٍ حَمِیدٍ». «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».[8]

خامساً: إن صراع النبی مع الأصنام و عبدتها صراعٌ مریر لا هوادة فیه منذ بعثته و حتى وفاته، و قد أظهر النبی صلابة نادرة فی محاربة الأصنام و عبادتها، دون أن یعتریه أی ضعف أو تردد فی ذلک و لم یقدم أی تنازل یذکر فی هذا الصراع حتى فی أحلک ظروفه و أسوء حالاته، فکیف یمکن له أن یذکر مثل هذه الألفاظ و تجری على لسانه!.

سادساً: حتى أولئک الذی لا یعتقدون بأن النبی مبعوث من الله فإنهم یعترفون بأنه رجل حکیم و مدبر و واع حیث تمکن من أن یحقق الکثیر من الانتصارات نتیجة لتدبیره و حکمته، فهل یمکن لشخصٍ مثل النبی (ص) الذی کان شعاره الأساسی «لا إله إلا الله» یشغله الشاغل مقارعة الشرک و المشرکین و تحطیم الأصنام و إزالتها بالکامل.

فهل من الممکن أنه یترک أهدافه و ینسى شعاره و یجری على لسانه مدح الأصنام و الثناء علیها؟!

و من الواضح أن ما تقدم من البحث یثبت أن أسطورة الغرانیق وضعها أعداء الإسلام الذین یحاولون النیل من القرآن و النبی الأکرم (ص)، و لذلک فإن جمیع المحققین من السنة و الشیعة یرفضون هذه الروایة رفضاً قاطعاً، و ینسبونها إلى وضع الوضاع.[9]

و لکن بعض المفسرین ذکروا تفسیراً و تعلیلاً لهذه الروایة یحسن ذکره على فرض القبول بثبوت الروایة، و مما جاء فیه: حیث إن النبی کان یقرأ آیات القرآن بتأنٍ و رویة، و قد یتخلل ذلک لحظات من السکوت لیتمکن من جذب قلوب الناس، و عندما کان مشغولاً بتلاوة آیات سورة النجم: «أفرأیتم اللات...» استغل بعض شیاطین المشرکین سکوته فنطقوا بالجملة المذکورة: «تلک الغرانیق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى» و کانت بلحنٍ خاص مستهدفین إضفاء لحن معوج على ما کان یلقی النبی من القرآن، إضافة إلى إیهام الناس و إلقاء الشبهات فی أذهانهم، و لکن الآیات التی تلت ذلک جاءت بردٍ شدید، و إدانةٍ لقضیة الأصنام بشدة.[10]

و من هنا اتضح أن الذین أرادوا جعل قصة الغرانیق دلیلاً على میل النبی إلى عبدة الأصنام و استمالتهم إلى الإسلام قد وقعوا فی خطأ کبیر، و إن هؤلاء لم یدرکوا موقف النبی التاریخی من الأصنام و عبدتها، و لعلهم لم یطلعوا على التاریخ و مصادره الأساسیة لیعلموا جیداً ما کان من محاولات المشرکین الکثیرة و عروضهم المغریة التی عرضوها على النبی شریطة أن یقدم تنازلاً عن بعض أهدافه و غایته إلا أنه رفض کل ذلک و لعلهم رأوا ذلک و لکنهم تجاهلوه.[11]



[1] النجم 19 و 20.

[2] غرانیق جمع غرنوق، نوع من الطیور المائیة البیضاء أو السوداء و کذلک جاءت بمعان أخرى (قاموس اللغة).

[3] جاء فی المیزان فی تفسیر الآیة المشار إلیها، ورد هذا الحدیث نقلاً عن جماعة من حفاظ أهل السنة من جملتهم ابن حجر.

[4] التفسیر الکبیر، الفخر الرازی، ص 23، ص 50.

[5] المصدر نفسه.

[6] النجم 3 و 4 "و ما ینطق عن الهوى إن هو إلا وحیٌ یوحى".

[7] النجم، 23.

[8] الحجر، 9.

[9] مجمع البیان، التفسیر، الفخر الرازی، القرطبی، فی ظلال، تفسیر الصافی، روح المعانی و المیزان و تفاسیر أخرى.

[10] تفسیر «القرطبی» ج 7، ص 4474 و کذلک نقلها «المرحوم الطبرسی» فی «مجمع البیان» کأحد الاحتمالات.

[11] نقلاً عن التفسیر الأمثل، ج 14، ص 142 ـ 145.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279359 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256920 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128057 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112882 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88920 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59629 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59356 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56813 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49392 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47111 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...