بحث متقدم
الزيارة
9166
محدثة عن: 2012/03/03
خلاصة السؤال
ما هي النسبة بين المقام الارضي لأهل البيت (ع) و مقاماتهم الملكوتية و الجبروتية؟
السؤال
ما هي النسبة بين المقام الارضي لأهل البيت (ع) و مقاماتهم الملكوتية و الجبروتية؟ حيث نرى بعض المقامات التي تذكر لاهل البيت (ع) لا تستوعبها هذه النشأة الدنيوية المحدودة، بل هي بحاجة الى رحاب اوسع و عالم أكمل لتحلق فيه، ذلك العالم المتمثل بالعوالم العلوية و العرشية؛ فكيف نجمع بين الاثنين؟
الجواب الإجمالي

يلاحظ من خلال بعض المقامات العالية للمعصومين التي اشارت اليها الروايات الشريفة، أن بعض تلك المقامات لا تستوعبها النشأة المادية و لا تتحقق في هذا العالم المادي؛ فعلى سبيل المثال احاطة الامام في مقام خلافة الصفات الالهية هي من هذا القبيل. و من الطبيعي أن تلك المقامات ناظرة الى المراتب الباطنية للامام لا المرتبة الظاهرية، و لاريب ان شخص الامام يعتمد في كل نشأة ما يناسبها من المراتب المتوفرة لديه، و لا يداخل بين احكام  تلك المراتب الوجودية.

الجواب التفصيلي

الف: الامام الحي مرتبة جامعة بين الصفات البشرية و الالهية

المقامات السامية و العالية في الامامة (الامامة العامة) هي عين مقامات الانسان الكامل الذي عاش بين الناس بعد طي الكثير من الاسفار و السلوكيات المعنوية فوصل الى نهاية الكمالات. و هذا يشبه ما ذكره العرفاء في خصوص الكمّل من الاولياء، كذلك ذكر في مورد الائمة المعصومين ( الامامة الخاصة) بصورة اكمل كما نقرأ في الزيارة: «خلقكمُ اللَّهُ أَنواراً فجعلكم بعرشه محدقین حتَّى منَّ علینا بکمْ فجعلكمْ فی بیوتٍ أَذن اللَّهُ أَن تُرفع و یذکر فیها اسمه».[1]

فالامام في أسمى مقاماته هو في الظاهر بشر له باطن واصل الى الحق (سواء كانه وصوله الى الحق من الاول ثم بعد ذلك خرج الى الفعلية، أم
أنه وصل الى ذلك من خلال السلوكيات و النشاطات العبادية و الحركات التطهيرية التي قام بها). و من هنا تجد الامام متوفراً على جميع مراتب الكمال الظاهرية و الباطنية.

و أول ما يواجهه الباحث عن معرفة المعصوم و الطالب له هو البعد الظاهري المشهود و المحدود بالزمان و المكان اللذين يعيش فيهما الامام (ع) لاجل هداية البشرية و الاخذ بيدها الى الصلاح من خلال هذا الطريق، و الحال أن الامام يتوفر في بعده الباطني على أسمى المراتب و الدرجات و يقف على قمة في سلسلة المخلوقات.

فالامام في بعده الباطني ليس انسانا عاديا و ليس محصورا في دائرة ضيقة. و بعبارة أخرى، الانسان العادي بعد الوصول الى  تلك المقامات و المراتب السابقة يخرج عن كونه انسانا عادياً؛ بمعنى أنه في الوقت الذي يعيش في اطار الزمان و المكان ظاهراً هو في باطنه أسمى و أرفع من تلك الحدود.

و لعل الامور التي أدت الى انحراف الكافرين عن جادة الحق و عدم ايمانهم بالانبياء و الائمة، تكمن في هذه النقطة و هي أنهم تصوروا أن الامام لما ادعى مظهرية الباري تعالى في قالبه المادي المحدود فلابد ان يكون في بعده المادي ذا طابع ماورائي لا يخضع لجميع الحدود و القيود (و ان كان كذلك حقا).

فالقالب البشري للامام قبل بتلك المحدوديات و لم يخرج منها الا في بعض الاحيان التي اقتضتها شروط المعجزة؛ و الا لا يتمكن أحد من الحاق الاذى بالامام مهما كان ذلك فلا يؤسر و لا يقتل و... فالامام (ع) مكلف بهداية البشرية و نجاتها من الضلال فلابد أن يعيش معهم في ضمن تلك الدائرة التي يعيشون فيها، و هذا ما زاد في عظمة الائمة (ع) لا انه يعد نقضا لتلك العظمة، و إن لم يدرك ذلك من أعشت بصره الماديات و لم يتجاوز في نظرته ما تدركه الابصار.

و هناك من كفر لانه رأى النبي أو الامام (ص) يعيش الفقر المادي بل قد يكون من أفقر الناس و يراهم قد تعرضوا لانواع البلاء و السجون و الغربة من قبل بشر من نفس جنسهم فلو كان خارج هذه الدائرة لما تعرضوا لكل ذلك حسب زعمه!!

و هناك من اطلع على المقامات الباطنية للائمة (ع) بنحو اجمالي مما انجر بهم الى سلوك طريق الغلو و المغالات فيهم (ع) حيث ظنوا أن بدن الائمة لا يشعر بالاذى و لا يتحسس الالم أبداً و أنه خارج عن اقتضاءات البشر، و بهذا انكروا عظيم مقام الاختيار و الانتخاب عند الائمة عليهم السلام.

ب: احاطة الامام بما وراء الزمان و المكان في عين حضوره في الزمان و المكان

يلاحظ من خلال بعض المقامات العالية للمعصومين التي اشارت اليها الروايات الشريفة، أن بعض تلك المقامات لا تستوعبها النشأة المادية و لا تتحقق في هذا العالم المادي؛ فعلى سبيل المثال احاطة الامام في مقام خلافة الصفات الالهية هي من هذا القبيل. و من الطبيعي أن تلك المقامات ناظرة الى المراتب الباطنية للامام لا المرتبة الظاهرية، و لاريب ان شخص الامام يعتمد في كل نشأة ما يناسبها من المراتب المتوفرة لديه، و لا يداخل بين احكام  تلك المراتب الوجودية. فعلى سبيل المثال الامام بجسده انسان يعيش مع سائر البشر، و لكنه في بعده الروحاني خارج عن حدود الكثرة المادية و مرتفع عنها فقد يكون في اكثر من موضع و يكون لكل واحدة من تلك المراتب احكامها الخاصة. و إن تحققت كل تلك المراتب في شخصية الامام المتكاملة و تمظهرت في شيء واحد.

فالعارفون بالامام حقيقة هم تلك الثلة من الناس التي اتصلت بالامام من خلال بعده الباطني و لم ينظروا الى الامام من هذه الزاوية الضيفة و المحدودة (الجسم المادي)، و هؤلاء هم الشيعة الحق الذين صارَت الْغيبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشاهَدَةِ [2]؛ و ذلك لانهم وفقوا من خلال العرفان و المعرفة لادراك حضور الامام ببعده الباطني فارتبطوا به من خلال هذا البعد لا البعد المادي.

ج: أصحاب الاعراف و الجمع بين المقامات الارضية و الملكوتية

قال تعالى في كتابه الكريم: «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ یعْرِفُونَ كُلاًّ بِسیماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَیكُمْ لَمْ یدْخُلُوها وَ هُمْ یطْمَعُونَ * وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمینَ»؛[3]

و طبقا للكثير من الروايات أن مقام الاعراف هو مقام الكمل من العرفاء و انه مطلق يمشل الائمة الاطهار (ع) و هو بين الجنة و النار، بل ارفع من ذلك.

من تلك الروايات:

الروايات التي دلت ضمنا على أن الآية استعملت في مادة الاعراف و العرفان و المعرفة، فقد جاء في مجمع البيان: « أن بكر بن عبد الله المزني قال: للحسن بلغني أنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم! فضرب الحسن يده على فخذه ثم قال: هؤلاء قوم جعلهم الله على تعريف أهل الجنة و النار يميزون بعضهم من بعض، و الله لا أدري لعل بعضهم معنا في هذا البيت»،[4]

و روي عن الامام الباقر (ع) أنه قال: « هم آل محمد علیهم السلام؛ لا یدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه، و لا یدخل النار إلا من أنکرهم و أنکروه[5]

و روى العياشي عن الثمالي قال: سئل أبو جعفر (ع) عن قول الله: وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ؟ فقال (ع): «نحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبب معرفتنا، و نحن الأعراف الذين لا يدخل الجنة إلا من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النار إلا من أنكرنا و أنكرناه، و ذلك بأن الله لو شاء أن يعرف الناس نفسه لعرفهم، و لكنه جعلنا سببه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه».[6]

و رى العياشي ايضاً عن سلمان الفارسي أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي (ع) أكثر من عشر مرات: «يا علي، إنك و الأوصياء من بعدك أعراف بين الجنة و النار، لا يدخل الجنة إلا من عرفكم و عرفتموه، و لا يدخل النار إلا من أنكركم و أنكرتموه».[7]

النتيجة:

أن جميع تلك الروايات تدل على أن الامام الحي في هذا المقام هو في مقام الاعراف و العرفان و ناظر الى الجنة و النار. و هذا المقام الجامع حسب المباني العرفانية هو آخر مراحل العرفاء بعد العودة من السفر من الحق الى الخلق، و الائمة المعصومون (ع) كانوا في هذا المقام و يشملهم الاطلاق ايضا.

و هدفنا من بيان هذا البحث هو أن المباني القرآنية في مقام الجمع بين مقامات الامام الارضية و الملكوتية، اشارت الى أن المقام الجامع هو مقام الاعراف. و هذا ما يحتاج الى الكثير من التفصيل الذي لا يسع المجال له هنا.

فالامام في عين اشرافه على عالم المادة، بل على عالم البرزخ، إلا انه ليس بمأمن من التبعات السيئة لعالم المادة، فالامام يعيش هذا العالم باخيتاره ليكشف عن مدى عظمته و تسليمه للباري تعالى و هذا من أرفع المقامات الالهية للإمام.



[1] الشیخ الصدوق، ‌من لایحضره الفقیه، ج2، ص 613. انتشارات جامعة مدرسین،‌ قم.

[2] «اَلْمُنْتِظرونَ لِظُهورِهِ اَفْضَلُ اَهْلِ كُلِ زَمانٍ لانَّ اللهَ تعالي ذِكْرُهُ اَعْطاهُمْ مِنَ الْعُقولِ وَ الْاَفْهامِ وَ الْمَعْرِفَةَ ما صارَت بِهِ الْغيبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشاهَدَةِ وَ جَعَلَهُمْ في ذلِكَ الزَّمانِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجاهِدينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ بِالسَّيْفِ اولئِكَ الْمُخَلَصونَ حَقّاً وَ شيعَتُنا صِدْقاً وَ الدُّعاةُ اِلي دينِ اللهِ سِراً وَ جَهْراً»، المجلسْ، محمد باقر، بحارالانوار، ج 5، ص 122، موسسه الوفاء، بیروت، 1409ق.

[3] الاعراف،‌46-47.

[4] الطبرسي مجمع البیان، ج 4، ص 653، انتشارات ناصر خسرو، طهران‏،1372 ش.‏

[5] ‌بحار الانوار، ج 8، ‌ص 331.

[6] البحراني، السيد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج‏2، ص: 554، نشر مؤسسة بعثة، الطبعة الاولى، طهران، 1416هـ.

[7] البرهان في تفسير القرآن، ج‏2، ص: 553.

 

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279435 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257244 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128140 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113244 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88996 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59835 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59551 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56854 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49732 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47164 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...