بحث متقدم
الزيارة
6942
محدثة عن: 2012/05/17
خلاصة السؤال
هل معنى قولنا إ ن الإنسان بموته ينتقل إلى الله سبحانه، هو أنه بعيد منه مادام على قيد الحياة؟
السؤال
هل معنى قولنا إن الإنسان بموته ينتقل إلى الله سبحانه ،أنه بعيد منه مادام على قيد الحياة؟ كيف يمكن البعد من الله سبحانه مع أنه قريب من كل شيء؟
الجواب الإجمالي

الرجوع إلى الله سبحانه الذي تشير إليه بعض الآيات القرآنية، لا يلزم معنى التقرّب المکاني منه، إذ أن القرب من الله بالمعنى المادي لا يمكن تصوره.

فالآيات التي تتحدث عن موت الإنسان تبيّن أن الإنسان بعد موته يرجع إلى الله سبحانه، لا أنه يتقرّب منه، حتى يُستنبط منها البعد منه في هذه الحياة الدنيا. و الرجوع إلى الله سبحانه بمعنى التحرّر من كل أسباب الحياة المادية، و دفع كل الحجب التي تحجبنا عن رؤية الواقع فيمكننا عندها رؤية المالك الحقيقي و علة الوجود بقلبٍ شفافٍ ثاقب البصیرة. و هذا الرجوع إلى الله لا يختص بالإنسان، بل كل الموجودات تعود يوماً ما إلى مبدأ الوجود.

الجواب التفصيلي

الرجوع إلى الله سبحانه الذي تشير إليه بعض الآيات القرآنية، لا يلزم معنى التقرّب المادي و المکاني منه سبحانه.

و قبل الدخول في البحث لابد من الإشارة إلى معنى القرب و البعد الإلهيين:

غالباً ما تستعمل كلمتا القرب و البعد في معناهما المادي. إذ عندما نستعمل هاتان الكلمتان في الإجسام ينتقل ذهننا تلقائياً إلى المعنى المادي للكلمة. لكن بما أنه ثبت بالدليل العقلي بأن الإصطلاحات الخاصة بالماديات لا تستعمل فيما فوق المادة مطلقا أو تستعمل بضرب من المجاز، فلا نقول مثلاً عن الله إنه حالٌّ في مكان معين أو إنه له جسم ماديّ و غير ذلك، فمن الطبيعي لا يمكن تصوّر القرب و البعد الماديين بالنسبة له جل شأنه. إلا إذا لم نقصد المعنى الظاهري لهذه الألفاظ الخاصة بالمادّة.

إذن فاستعمال كلمتي القرب و البعد بالنسبة لله لا يمكن أن يُفهم منها معنى القرب و البعد المادي أبداً، بل يُفهم منها البعد المعنوي قطعاً. فيتحصل من ذلك أن القرب من الله سبحانه لا یقصد منه إلا القرب المعنوي و الروحي و البعد منه كذلك لا يكون إلا بمعنى البعد المعنوي و الروحي.

من هنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يتقرّب الإنسان من الله سبحانه بموته حتى نقول بأنه كان بعيداً عنه في الدنياً؟!

يجب القول هنا، أولاً: لم يذكر القرآن بأن الإنسان يتقرب إلى الله بموته، بل يقول إنه يرجع إليه بموته،  ثانياً: نحن نعلم بأن كثيراً من محبي الله سبحانه و مطيعي أوامره يعتبرون قريبين من الله أما أعداؤه فهم بعيدون منه حتى بعد موتهم إذ أن هذا القرب و البعد متعلّق بعمل الإنسان لا غير.

تشير الآيات القرآنية بأن الموت وسيلة لرجوع الإنسان لله سبحانه حيث يقول: "الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنهَّم مُّلَاقُواْ رَبهِّمْ وَ أَنهَّمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون".[1] "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون"[2] "وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّ قُلُوبهُمْ وَجِلَةٌ أَنهَّمْ إِلىَ‏ رَبهِّمْ رَاجِعُون".[3]

و قد فسّر عدة من المفسّرين الرجوع إلى الله سبحانه بأنه رجوع إلى مكان يتضح فيه لنا بأن الملك كله لله فلا مالك غيره و لا يأتي بالنفع و الضرر إلا هو، كما كان في ابتداء الخلق و سنعود إلى ما كنا عليه أول الخلق، و سنبتعد عن كل لوازم الحياة في الدنيا و نرجع إلى مبدأ الوجود.[4]

و بعبارة أخرى، الرجوع إلى الله سبحانه یعني التحرّر من كل أسباب الحياة المادية و إزاحة كل الحجب التي تحجبنا عن رؤية الواقع فيمكننا عندها درك المالك الحقيقي و علة الوجود بشكل واضح.

و هذا الرجوع إلى الله لا يختص بالإنسان، بل إن كل الموجودات ترجع إلى خالق الوجود. و هذا الرجوع سيكون عن طريق تحوّل يشمل تمام عالم الوجود، كما يشير إلى هذا المعنى القرآن بقوله "وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ  وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون"[5] و "إِنَّ إِلىَ‏ رَبِّكَ الرُّجْعَى".[6]

فالنتيجة النهائية المتحصلة هنا هي أن جميع الموجودات ترجع إلى الله سبحانه، لكن لا يتقرب منه إلّا البعض منها.

 


[1]  البقرة، 46.

[2]  البقرة، 156.

[3]  المؤمنون، 60.

[4]  الرازي، فخر الدين، مفاتيح الغيب، ج 3، ص 492، دار أحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1420 ق.

[5]  الهود، 123.

[6]  العلق، 8.

 

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279422 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257174 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128119 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113186 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88976 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59797 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59519 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56845 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49698 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47148 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...