بحث متقدم
الزيارة
8152
محدثة عن: 2006/05/21
خلاصة السؤال
کیف یمکن للدین ان یعالج کل ما یحتاجه الانسان علی طول التاریخ؟
السؤال
کیف یمکن للدین ان یتضمن سائر ما یحتاجه الإنسان فی طریق الفلاح، حتى نهایة التاریخ؟ کیف یمکن لدین واحد ان یتولی هدایة الإنسان على الدوام، رغم کل هذا التغیر و التحول و التکامل الذی یکتنف مسار الإنسانیة؟
الجواب الإجمالي

تتطلب معالجة هذه الإشکالیة، التدبر فی أحوال الإنسان کی نری ما إذا کان من الصحیح القول بأن الإنسان آخذ فی التغیر و التحول و أن شؤونه کافة عرضة للتغیر، أم ان هذه القشره المتغیرة تخفی وراءها نواة ثابـتة لا تتغیر، و هی نواة تصل بین الماضی و الحاضر و المستقبل، و تحافظ على هویة إنسانیة متحرکة فی مجری التاریخ و تضفی معناها على ثقافة الإنسان و حضارته؟

الجواب التفصيلي

وجد البعض أنفسهم عاجزین عن الإجابة عن التساؤل هذا، فتنازلوا عن الزعم من أساسه و أذعنوا إلى القول بأن سبب ختم الدیانة، یتمثل باستغناء الإنسان عن الهدایة الإلهیة نتیجة للتکامل العقلی و الفکری! قال هؤلاء: ان ختم الدیانة یعنی ان البشریة تحقق تقدماً و نضجاً یجعلها فی غنى عن الدین.[1]

و حیث ان هذا ما قاله محمد إقبال و سبقه إلیه آخرون فی الماضی، فإن هؤلاء یطرحون الموضوع على النحو التالی کی یکتسب شکلاً جدیداً: ان الاستغناء هذا على نوعین، فثمة استغناء مذموم قبیح، و آخر حسن ممدوح.

و الأول ان یکون المرء محتاجاً إلی أمر فی الحقیقة، غیر انه یأبی ان یحاول الحصول علیه و یزعم الاستغناء عنه، و هذا استغناء قبیح کما لو کان هنالک مریض یحتاج إلی العلاج، غیر انه یرفض مراجعة الطبیب و یزعم انه مستغن عن ذلک.

غیر ان ثمة استغناءً آخر حسناً محموداً، کما لو افترضنا ان المریض راجع الطبیب الذی یحاول معالجة مریضه هذا، فإن العلاج المذکور یجعل المریض فی غنی عن الطبیب، فالطبیب هنا یتخذ تدابیر علاجیة تؤدی فی نهایة المطاف إلی وضع حد لعلاقته بالمریض و إنهاء فترة العلاج: أما لو أراد الطبیب التمسک بالعلاقة هذه فلا بد له آن یعمل على بقاء المرض کی یظل المریض یتردد على عیادته، بید ان الطبیب الحریص یسعی إلی القیام بعمله على النحو الأمثل، الأمر الذی یعنی نهایة للعلاقة بین الطبیب و المریض، لأن القیام بالعمل هذا على النحو الأمثل، یؤدی إلی تعافی المریض و بالتالی فإنه لن یکون بحاجة إلی الطبیب.

و هذا ما نقوله کذلک فیما یتصل بالعلاقة بین الأستاذ و التلمیذ، فمسؤولیة المعلم تتطلب منه ان یعمل جاهداً للارتفاع بمستوی التلمیذ إلی حد یجعله فی غنی عن الأستاذ.

فالأستاذ الحریص یتخذ تدابیر تعلیمیة تربویة تؤدی فی نهایة المطاف إلی قطع العلاقة بین الأستاذ و التلمیذ، فالتلمیذ حینئذ لن یبقی تلمیذاً، بل سیصبح أستاذاً فی مصاف أستاذه.

ثم قالوا: و هذا ما فعله الأنبیاء بالضبط، فهم مثل کل طبیب یتحلی بالحرص، لقنوا الإنسانیة مجموعة من التعالیم أدت إلی تحقیق مستوی ثقافی محدد یجعل الإنسان مستغنیاً عن الأنبیاء،‌کما ان المریض یستغنی عن طبیبه بعد مرحلة التعافی، و أن التلمیذ یستغنی عن أستاذه بعد مرحلة الدراسة.

و یری هؤلاء ان هذا هو الذی یفسر ختم الدیانة، و هذا ما کان یرمی إلیه محمد إقبال حین قال بأن الأمة تستغنی عن النبی بعد بعثة سیدنا محمد (صلی الله علیه و آله)، بمعنی ان تعالیم النبی تشیع بین الناس فتغنیهم بعد ذلک عن التربیة النبویة، و تغنیهم عن نبی آخر[2].

غیر ان الدلیل الذی یثبت حاجة الإنسان إلی الدین، هو وجود أشیاء لیس فی وسع الإنسان التوصل إلیها من خلال عقله و حسه و تجربته، أی ان ثمة نقصاً‌ فی أدوات الإدراک المتاحة لنا، الأمر الذی دعمه العقل و أذعن له فی الأبحاث الفلسفیة، کما تضمن القرآن إشارة إلیه، قال تعالی: «علمکم ما لم تکونوا تعلمون»[3] و هکذا فإن الإنسانیة لن تبلغ مستوی یجعلها فی غنی عن الدین.

و من جهة أخری، فلو کان الأمر کذلک، لکان الإنسان قد استغنی عن الدین بعد مرور بضعة قرون على ظهور الإسلام، و لأخذ فی إکمال الطریق بواسطة عقله. بید ان التاریخ المعاصر یمثل الشهادة الأمثل على ان ذلک لم یتحقق.

لم یشعر الإنسان باستغنائه عن الدین، و لیس هذا و حسب بل هو یقترب الیوم من الدین أکثر فأکثر و یتزاید شعوره بحاجته إلی ذلک، بعد تمرده على الدین، بعد نهایة عصر النهضة و الأزمات المرة التی تلته.

تبنی اتجاه آخر نظریة الدین المتکامل، فی معالجتهم للسؤال المطروح، زاعمین ان خاتم الدیانات یتکامل فی مواکبة التکامل البشری، و هو یتکیف دوماً مع المتطلبات الجدیدة. لقد أدخلت هذه الفکرة، التحول و التغیر إلی صمیم الدین و رفضت خلود التعالیم الدینیة.

تنبه البعض إلی هذه النتیجة و حاولوا معالجه الإشکالیة و تجنب النتیجة الباطلة تلک، فراحوا یمیزون بین «الدین» و «المعرفة الدینیة».

قال هؤلاء: ان «أصل الدین» ثابت، بینما «المعرفة الدینیة» متغیرة تتطور فی مواکبة العلوم البشریة! کان هؤلاء یدرکون فی الوقت ذاته، ان الشیء المتغیر الذی یکون عرضة للزوال، لا یمکن ان یتسم «بالقداسة»، و هکذا قالوا ان «الدین ثابت مقدس، بینما المعرفة الدینیة متغیرة غیر مقدسة». لکن الإنسان لا یتاح له سوی المعرفة الدینیة، بینما یظل الدین فی خلوته و عزلته غیر متاح أبداً.

ان دیناً کهذا لا یدخل فی تعریف «الدین المرسل» لما تقدم سابقاً من ان الدین المرسل مجموعة من التعالیم التی جری إبلاغها إلی الناس بهدف هدایتهم من خلال الأنبیاء. لنفترض اننا نری ان ما بینه الأنبیاء و جاء فی النص الدینی، هو «دین». و نظل رغم ذلک مصرین على وجود تغییر و تطور ضروری فی المعرفة الدینیة لا یمکن تجنبة؛ بل هذا ما یعنیه الرأی السابق بالضبط بصیاغة جدیدة. و بالتالی فإننا سنتورط فی الإشکالیة التی تقرر ان دیناً کهذا لا یمکنه ان یتسم بالقداسة[4].

تتطلب معالجة هذه الإشکالیة، التدبر فی أحوال الإنسان کی نری ما إذا کان من الصحیح القول بأن الإنسان آخذ فی التغیر و التحول و أن شؤونه کافة عرضة للتغییر، أم ان هذه المستویات المتغیرة تخفی وراءها نواة ثابتة لا تتغیر، و هی نواة تصل بین الماضی و الحاضر و المستقبل، و تحافظ على هویة إنسانیة متحرکة فی مجری التاریخ و تضفی معناها على ثقافة الإنسان و حضارته؟[5]



[1]- لاحظ: عبدالکریم سروش، ریشه در آب است: نگاهی به کارنامه‌ای کامیاب پیامبران. (حذر فی الماء: رؤیة تجربة الأنبیاء الناجحة). کیهان فرهنگی، شماره 29، ص 14.

[2]- م.ن. ص 13-14.

[3]- البقرة، 239.

[4]- لاحظ: هادوی تهرانی، مبانی کلامی اجتهاد (المبادی الکلامیة للاجتهاد). ص 317-380.

[5]- الموضوع: الدین و الإنسان، الموضوع: الدین، الثبات و التغیر.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279312 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256747 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128014 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112647 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88885 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59524 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59313 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56785 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49248 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47087 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...