بحث متقدم
الزيارة
6318
محدثة عن: 2009/06/24
خلاصة السؤال
لماذا تتغیّر شخصیة النبی حینما یکون فی موقع القوّة و السلطة؟
السؤال
لماذا تتغیّر شخصیة النبی حینما یکون فی موقع القوّة و السلطة؟
الجواب الإجمالي

رغم انه لم یذکر مستند لهذا الادعاء و لکن یجب أن نعلم -علی أی حال- بأنه لیس کل تغییر سلوکی هو علامة علی تغییر الشخصیة، و ربما کان للنبی الأکرم(ص) فی موارد مختلفة، أنماط مختلفة ظاهراً من السلوک بحسب اقتضاء الزمان و المکان و الموقف، و لکن لا یمکننا ان ننسب أیّاً منها الی الاختلاف فی شخصیته، بل توجد أسباب کثیرة لذلک لابد من ملاحظتها کلّاً علی حدة.

الجواب التفصيلي

یمکننا دراسة هذا التساؤل بنظرة دقیقة فی شقّین:

الأول: هل أن کل تغییر سلوکی یعتبر أمراً غیر مرضی و دلیلاً علی تغییر الشخصیة؟

الثانی: هل طرأت تغییرات سلبیة علی شخصیة نبی الإسلام الأکرم(ص) بعد تنامی قوّته الظاهریة؟

و حول الشقّ الأول ینبغی القول بأنه لا یمکننا اعتبار کل تغییر سلوکی علامة علی تغییر الشخصیة و اعتبار ذلک أمراً مذموماً، و کنموذج علی ذلک نشیر فیما یلی الی بعض التغییرات التی لا تعتبر أمراً مذموماً من وجهة نظر العقل و الدین:

1. قد یکون للشخص علاقات صمیمة مع الآخرین و ینفق الکثیر من وقته لمداراتهم، ثم بعد ذلک یحصل تغییر فی موقعه الشغلی یؤدی الی ضیق وقته و لذلک فهو سوف لن یتمکن من الذهاب للقائهم جمیعاً کما فی السابق، و علی هذا الأساس فهو سیستمر فی علاقاته بهم و لکن عن طریق الاتصالات الهاتفیة مثلا. فهذا التغییر السلوکی لا یمکن اعتباره تحولاً فی شخصیته و لا یصح لومه علی ذلک.

و اما لو ان نفس هذا الشخص و بعد وصوله الی المنصب رأیناه لا یردّ السلام علی أصدقائه أو انه یتنکر من الأساس لعلاقاته السابقة مع أصدقائه، فإنه یمکننا استنتاج ان شخصیته قد تغیّرت بالاتجّاه السلبی! و یمکننا ملاحظة نفس هذا الوضع فی سلوک الوالدین مع أبنائهم بعد تولّد ابن جدید.

2. إذا کنا نقوم باحترام خاص لشخص بسبب کونه متدیّناً و متواضعاً، لکن نفس هذا الشخص تحوّل فیما بعد الی انسان متکبّر ملحد بعد نیله منصبا دنیوی، فإن سلوکنا معه سیختلف حتماً! و منشأ مثل هذا التغییر السلوکی هو التحوّل فی شخصیة الطرف المقابل و لیس هو التغییر فی شخصیتنا!

3. إذا کان الطرف المقابل لنا شخصاً کافراً محارباً للمسلمین، فإن مواجهتنا له ستکون عنیفة و شدیدة[1]، و لکن نفس هذا الشخص إذا عزم علی الدراسة و البحث حول الدین الإسلامی فنحن مکلّفون استناداً الی الأمر الإلهی: ان نحقق له الأمان التام[2]، بل حتی لو اختار السکن الی جوارنا أو حلّ ضیفاً علینا، فإن تعالیمنا الدینیّة تلزمنا بأن نعامله باحترام.[3]

و یمکننا ان نعدّد کثیراً من الموارد من هذا النوع من التغییر فی السلوک و الذی یؤیده العقل و الدین، و فی هذا المجال فان هذا الاحتمال موجود أیضاً و هو ان ما نراه من سلوک النبی الأکرم(ص) علی أساس أحد هذه الموارد أو المواقف المشابهة، یغایر سلوکه السابق، و هذا الأمر ناظر الی الشق الثانی من سؤالکم.

و کمثال علی ذلک فقد روی أن النبی(ص) دخل یوماً الی بیته الذی کان غاصّاً بالضیوف و کان أحد الصحابة و اسمه جریر جالساً خارج الدار لعدم وجود مکان فی الداخل و حین انتبه النبی(ص) لذلک أعطاه بعض ثیابه و أمره أن یبسطه علی الأرض و یجلس علیه! و بعد ان رأی ذلک الصحابی هذا الاحترام من جانب رسول الله(ص) فبدلاً أن یلقی الثوب و یجلس علیه قام بتقبیل الثوب و وضعه علی وجهه![4]

لاحظوا بدقّة: ان النبی(ص) کان بامکانه ان یتعامل بمثل هذا التعامل مع عدد محدود من صحابته اما إذا صار أتباع رسول الله(ص) مئات الآلاف و کان کل منهم مشتاقاً للتحدث معه و مجالسته، أ فلا یکون استمرار مثل هذا التعامل مخلّاً بحیاته الشخصیة و الاجتماعیة؟

و علی هذا الأساس یخاطب الله المؤمنین بقوله "لا تدخلوا بیوت النبی الّا أن یؤذن لکم الی طعام غیر ناظرین إناه و لکن إذا دعیتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسین لحدیث ان ذلکم کان یؤذی النبی فیستحیی منکم و الله لا یستحی من الحق ..."[5]

و بناء علی هذا فلا یمکننا عن طریق المقارنة بین هاتین الواقعتین التاریخیّتین أن نستنتج بأن شخصیّة النبی(ص) قد تغیّرت، و انه غیّر تعامله السابقة مع أصحابه، بل ان الظروف تغیّرت بحیث کان استمراره علی تعامله السابق أمراً شاقّاً بل غیر ممکن.

و إذا وجدنا موارد اخری من تغییر سلوک النبی(ص) یجب ان نبحث بدقّة عنها و عن أسبابها، لا أن نتسرّع فی الاستنتاج بأن شخصیته قد تغیّرت بعد وصوله الی السلطة!

و حیث إنکم لم تذکروا فی سؤالکم نموذجاً للمدّعی المذکور، فإنه لا یمکننا عرض تحلیل دقیق لما تقصدون الیه، فان رغبتم فی ذلک فیمکنکم ان تذکروا ذلک بدقة و ترسلوه لنزیل بعون الله الإبهام الحاصل لکم فی هذا المجال.

و لکن ما هو المسلّم هو ان النبی(ص) کان یتمتّع طیلة حیاته بثبات فی شخصیته و انه هو نفسه کان یذم و ینتقد الذین تتزلزل شخصیّاتهم بعد الوصول الی منصب جدید و یقول فی هذا المجال مخاطباً أمیر المؤمنین علیّاً(ع):"یا علی لئن أدخل یدی فی فم التنین الی المرفق أحب الیّ من ان اسأل من لم یکن ثم کان!"[6]

و هناک شواهد تاریخیة اخری کثیرة حول ذلک. نشیر الی نموذجین منها:

الأول: یروی الإمام الباقر(ع) عن النبی(ص) قوله:"خمس لا أدعهن حتی الممات: الأکل علی الحضیض مع العبید و رکوبی الحمار مؤکفا و حلبی العنز بیدی و لبس الصوف و التسلیم علی الصبیان لتکون سنة من بعدی"[7]ً

و قد رأیناه انه بقی علی عهده و استمر علی هذه الطریقة الی آخر عمره الشریف.

الثانی: دخل أحد الصحابة علی النبی(ص) و هو علی حصیر قد أثر فی جنبیه فقال: یا نبی الله لو اتّخذت فراشاً؟! فقال: ما لی و للدنیا ما مثلی و مثل الدنیا الا کراکب سار فی یوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح و ترکها"[8]

نعم ان العظماء الذین یعتبرون الدنیا و کل ما هو فیها أمر هالک و فانٍ، و ان الله وحده هو الباقی و الدائم[9]،فان شخصیاتهم أجلّ من أن تتغیّر بتغییر حیاتهم الدنیویّة و ینسون أنفسهم و یتعاملون بتکبر و بغیر ما أمر الله تعالی به. و نأمل ان نکون نحن أیضاً من السائرین علی سیرة نبیّنا(ص).

و بالطبع فکما ذکرنا بانه من الممکن ان تختلف تصرّفات جمیع الناس و منهم النبی(ص) علی مدی حیاتهم بحسب المواقف و الظروف المختلفة، فلا یمکن اعتبار ذلک دلیلاً علی تغییر شخصیاتهم.



[1] الفتح، 29؛ التوبة، 73؛ و ... .

[2] التوبة، 6.

[3] الشعیری، تاج الدین، جامع الأخبار، ص83، دار الرضی للنشر، قم، 1405 ه.ق.

[4] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 16، ص 235، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه.ق.

[5] الأحزاب، 53.

[6] الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج 9، ص440، الروایة 12439، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 ه.ق. اطلقت هذه الروایة عبارة(من لم یکن ثم کان) علی من وصل الثراء حدیثاً.

[7] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 16، ص 214، الحدیث 2.

[8] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 16، ص 239.

[9]القصص، 88.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279359 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256907 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128057 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112878 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88919 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59629 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59354 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56811 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49387 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47111 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...