إنّ الإسلام - كما ورد في متن السؤال- دين الرحمة و الصفح، و قد أكّدت المصادر الرئيسية هذا المعنى، قال تعالى في كتابه الكريم: «... إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً».
[1] بل قد طلب تعالى من نبيّه الكريم إشاعة العفو و الأمر بالمعروف في قوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلين».
[2] و في آية أخرى إشارة واضحة إلى أنّ السرّ في نجاح الرسول الأكرم (ص) في مهتمه يكمن في خصوصية اللين و العفو اللتين تحلّى بهما (ص) و أن ذلك من نعم الله تعالى على رسوله «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ».
[3] و لقد أشير في هذه الآية - قبل أي شيء- إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول اللّه (ص)، ألا و هي اللين مع الناس و الرحمة بهم، و خلوه من الفظاظة و الخشونة.
[4] إلى غير ذلك من الآيات و الروايات التي تعتبر العفو و الصفح من أساسيات الدين الإسلامي و من الصفات الحميدة التي ينبغي للانسان المسلم التحلّي بها.
إلا أنّ ذلك لا يعني انتهاج هذه الطريقة و اعتماد منهج العفو و الصفح مطلقاً، بل يعتمد فيما إذا كان الخصم و الجهة المقابلة تتفهم معنى العفو و تحفظ للإسلام هذه الخصوصية الأخلاقية الرفيعة و تلتزم هي الأخرى بتعهداتها الأخلاقية و الإجتماعية و لا تفسّر العفو و الصفح الإسلامي بأنهما نابعان من عجز المسلمين و ضعفهم، فيجرها في نهاية المطاف إلى الغطرسة و التجاوز على القانون و هضم الحقوق و التكبّر أمام لين الاسلام و عفوه، مما يؤدي في اعطاء مردودات سلبية لا يمكن القبول بها و التسليم أمامها، و من هنا جاءت الآيات المباركة لتضع حدّاً بين منهج اللين و مواجهة المتغطرسين من الخصوم بصورة لا لبس فيها «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُم».
[5] و قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فيكُمْ غِلْظَةً».
[6]
فيما حثت الآيات في جانب آخر على الحياة التسامحية و الجنوح الى السلم و العدل حتى مع المخالفين دينياً فيما إذا ركنوا الى السلم و لم يحاربوا المسلمين و يقاتلونهم «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين».
[7] و قوله تعالى «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّه».
[8]
و بهذا يتضح أن القرآن الكريم يقسّم «المشركين» إلى فئتين:
فئة: عارضوا المسلمين و وقفوا بوجوههم و شهروا عليهم السلاح و أخرجوهم من بيوتهم و ديارهم كرها، و أظهروا عداءهم للإسلام و المسلمين في القول و العمل .. و موقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الامتناع عن إقامة كلّ لون من ألوان علاقة المحبّة و صلة الولاء معهم. و المصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكّة، و خصوصا سادات قريش، حيث بذل بعضهم كلّ جهدهم لحرب المسلمين و إيذائهم، و أعانوا آخرون على ذلك.
و فئة أخرى: مع كفرهم و شركهم- لا يضمرون العداء للمسلمين، و لا يؤذونهم و لا يحاربونهم و لم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم و أوطانهم، حتّى أنّ قسما منهم عقد عهدا معهم بالسلم و ترك العداء.
إنّ الإحسان إلى هذه المجموعة و إظهار الحبّ لهم لا مانع منه، و إذا ما عقد معهم عهد فيجب الوفاء به، و أن يسعى لإقامة علاقات العدل و القسط معهم.
[9]
و المتحصل أن الاسلام لم يعتمد في كل تعاليمه منهج العنف و المواجهة المباشر و يرفض اسلوب التعامل الخشن و العنيف مع الخصوم ما لم يبدأوا بالتعرّض للمسلمين و التجاوز على حرماتهم و هضم الحقوق و الاعتداء على القوانين و نقض العهود و المواثيق، فحينئذ و حينما يرى الاسلام أن الكي هو العلاج النافع لا يتردد في اعتماده بعد إلقاء الحجّة على الخصوم.