Please Wait
9959
اشار المفسرون الى عظمة هذه الآية المباركة بنحو مفصل، نحاول هنا التقاط بعض الكلمات التفسيرية الواضحة و المسيرة للآية فقد جاء في تفسير الكاشف:
إياك ضمير منفصل، و محله النصب مفعولا للفعل الذي بعده، و قدم للحصر و الاختصاص . و المعنى نعبدك، و لا نعبد سواك، و نستعين بك، لا بغيرك، و خاطب العبد ربّه بضمير المفرد إخلاصا في التوحيد، و تنزيها عن الشريك. و ليس معنى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ان اللّه أهل للعبادة و كفى، بل تدل الآية أيضا على ان الإنسان مخلوق كريم حرره اللّه من العبودية و الخضوع إطلاقا إلا للحق الذي يعلو على كل شيء، و لا يعلو عليه شيء.
و جاء في تفسير راهنما أن التأمل في الآية المباركة يعطينا مجموعة من الاشارات المهمة في حياتنا الفكرية و السلوكية، منها: 1.إن المعبود الحق هو الله تعالى لا سواه؛ 2. ينبغي ان تكون سلوكيات الانسان منسجمة و متوافقة مع الفكر الصحيح و العقائد الحقة؛ 3. على الانسان أن لا يرى لنفسه وجوداً أو قيمة أمام العظمة الالهية اللامتناهية؛ 4. الجدير بالانسان ان يستشعر الحاجة و الاستعانة بالله المطلق دائماً، فلا تنحصر الاستعانة بجانب دون آخر من جوانب الحياة.
مفهوم العبادة
قد تفسر العبادة بمعان ثلاثة- في اللغة-:
الأول: الطاعة. و منه قوله تعالى: "أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ"[1] فإن عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة هي إطاعته.
الثاني: الخضوع و التذلّل. و منه قوله تعالى: "فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ"[2] أي خاضعون متذلّلون.
الثالث: التألّه. و منه قوله تعالى: "قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ".[3] و إلى المعنى الأخير يصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة.
و قد نلاحظ أمام هذا الحديث عن التنوّع في المعاني، أنها تنطلق من معنى واحد، و هو الخضوع المطلق الذي يختزن في داخله معنى الاستسلام للمعبود و الذوبان فيه و الانسحاق أمامه، حتى ليحتوي في حالته الشعورية الإحساس بشيء من الالوهية أو بالالوهية كلها في ذات المعبود. فليست العبادة هي الخضوع و لا الطاعة و لا التألّه، و لكنها المعنى الذي يشمل ذلك كله في خصوصية مميّزة.[4]
" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ":
إياك ضمير منفصل، و محله النصب مفعولا للفعل الذي بعده، و قدم للحصر و الاختصاص .. و المعنى نعبدك، و لا نعبد سواك، و نستعين بك، لا بغيرك، و خاطب العبد ربّه بضمير المفرد إخلاصا في التوحيد، و تنزيها عن الشريك، و من أجل هذا لا يخاطب الواحد القهار بصيغة الجمع .. أما ضمير نحن في نعبد و نستعين فللمتكلم و من معه، لا للتعظيم. و ليس معنى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ان اللّه أهل للعبادة و كفى، بل تدل الآية أيضا على ان الإنسان مخلوق كريم حرره اللّه من العبودية و الخضوع إطلاقا إلا للحق الذي يعلو على كل شيء، و لا يعلو عليه شيء .. و بديهة ان الحرية التي لا يحدها الحق تنعكس الى فوضى.[5]
و لا أعدو الحقيقة إذا حددت الحرية بالايمان باللّه، و التعبد له وحده لأن من تعبد للحق دون سواه فقد تحرر من الباطل و من تحرر من عبادة الحق فقد عبد الباطل حتما، و التفكيك محال إلا عند فوضوي، لا يؤمن بحلال و لا بحرام، و لا بشيء على الإطلاق إلا بنفسه وحدها لا شريك له.[6]
الإنسان بين يدي اللّه
و نحن لو تأملنا في الآية المباركة، نجد أن لحن السّورة يتغير في هذه الآية، إذ يبدأ فيها دعاء العبد لربّه و التضرّع إليه؛ فالآيات السابقة دارت حول حمد اللّه و الثناء عليه، و الإقرار بالإيمان و الاعتراف بيوم القيامة، و في هذه الآية يستشعر الإنسان حضوره بين يدي اللّه ... يخاطبه و يناجيه، يتحدث إليه أولا عن تعبّده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ".
بعبارة اخرى: بعدما يكتمل الإنسان في جانبه العقائدي، و تترسخ عنده العقيدة التوحيدية العميقة و يتجذر عند توحيد العبادة و توحيد الأفعال - بمعنى الاعتراف بأن اللّه سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة و الطاعة و الخضوع، و بالتشريع دون سواه[7]، و تجنب أيّ نوع من العبودية و التسليم، لغير ذاته المقدسة، و الإيمان بأن اللّه هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه)[8] - تكون ثمرة هذا الاعتقاد أن الإنسان يصبح معتمدا على (اللّه) دون سواه، و يرى أن اللّه هو القادر العظيم فقط، و يرى ما سواه شبحا لا حول له و لا قوّة، و هو وحده سبحانه اللائق بالاتكال و الاعتماد عليه في كل الأمور. فيتحرر الإنسان من الانشداد بأي موجود من الموجودات، و يرتبط باللّه وحده و تسمو روح الإنسان و تتوسّع آفاق فكره، ليرتبط بالأبدية و اللانهاية دون الأطر الضيقة الهابطة.[9]
يقول الامام الرضا (ع) في تفسيره للآية المباركة: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ رَغْبَةٌ وَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَ إِخْلَاصٌ لَهُ بِالْعَمَلِ دُونَ غَيْرِهِ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اسْتِزَادَةٌ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَ عِبَادَتِهِ وَ اسْتِدَامَةٌ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ نَصَرَه".[10]
و في الختام نشير الى بعض النكات التفسيرية في الآية المباركة:
1. المعبود الحق هو الله تعالى لا سواه، وهذا ما يدل عليه تقديم المفعول "إياك" الدال على الحصر.
2. ينبغي ان تكون سلوكيات الانسان منسجمة و متوافقة مع الفكر الصحيح و العقائد الحقة.
3. ينبغي على الانسان أن لا يرى لنفسه وجوداً او قيمة أمام العظمة الالهية اللامتناهية فلا يتلفظ او يتحرك بما يوحي بان لها شأناً كبيراً كاستعمال الضمير "نحن" بدل "أنا"، ثم ان هذه الأنا من المناسب جداً ان تردف بما يدل على ضعفها و فقرها، و هذا المعنى من أهم آداب العبادة الذي يلحظ بوضوح في كتب الادعية.
4. على الانسان ان يستشعر الحاجة و الاستعانة بالله المطلق دائماً، فلا تنحصر الاستعانة بجانب دون آخر و هذا الامر من لوازم التوحيد الصحيح.
5. على المؤمن ان يستشعر بانه و ان كان حراً في اختيار دينه و عبادة الله تعالى و لكنه لا يتمكن من ذلك من دون الاسناد و المدد و العون الالهي.[11]
[1] يس، 60.
[2] المؤمنون، 47.
[3] الرعد، 36.
[4] فضل الله، السيد محمد حسين، تفسير من وحي القرآن، ج1، ص: 55- 56، دار الملاك للطباعة و النشر، بيروت، 1419 ق، الطبعة الثانية.
[5] مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، ج1، ص: 34، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الاولى، 1424 ق.
[6] نفس المصدر، ص 35.
[7] انظر: المواضيع التالية: «مراتب التوحید»، سؤال 1557 (الموقع: 1650)؛ « الله و الصفات الثبوتية و السلبية»، سؤال 2330 (الموقع: 2859).
[8] مع عدم إنكار عالم الأسباب و المسببات.
[9] مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص: 48- 49، نشر مدرسة الامام علي بن أبي طالب (ع)، قم، الطبعة الاولى، 1421هـ.
[10] الشيخ الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تحقيق و تصحيح: غفاري، علي اكبر، ج 1، ص 310، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1413 ق.
[11] انظر: هاشمي، علي اکبر، تفسیر راهنما، ج 1، ذیل الآیه 5، من سورۀ الحمد، مرکز فرهنگ و معارف قرآن، قم، (بتصرّف يسير).