بحث متقدم
الزيارة
9959
محدثة عن: 2012/05/15
خلاصة السؤال
ما هو التفسير الواضح و الميسر لقوله تعالى: "اياك نعبد و اياك نستعين"؟
السؤال
ما هو التفسير الواضح و الميسر لقوله تعالى: "اياك نعبد و اياك نستعين"؟
الجواب الإجمالي

اشار المفسرون الى عظمة هذه الآية المباركة بنحو مفصل، نحاول هنا التقاط بعض الكلمات التفسيرية الواضحة و المسيرة للآية فقد جاء في تفسير الكاشف:

إياك ضمير منفصل، و محله النصب مفعولا للفعل الذي بعده، و قدم للحصر و الاختصاص . و المعنى نعبدك، و لا نعبد سواك، و نستعين بك، لا بغيرك، و خاطب العبد ربّه بضمير المفرد إخلاصا في التوحيد، و تنزيها عن الشريك. و ليس معنى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ان اللّه أهل للعبادة و كفى، بل تدل الآية أيضا على ان الإنسان مخلوق كريم حرره اللّه من العبودية و الخضوع إطلاقا إلا للحق الذي يعلو على كل شي‏ء، و لا يعلو عليه شي‏ء.

و جاء في تفسير راهنما أن التأمل في الآية المباركة يعطينا مجموعة من الاشارات المهمة في حياتنا الفكرية و السلوكية، منها: 1.إن  المعبود الحق هو الله تعالى لا سواه؛ 2. ينبغي ان تكون سلوكيات الانسان منسجمة و متوافقة مع الفكر الصحيح و العقائد الحقة؛ 3. على الانسان أن لا يرى لنفسه وجوداً أو قيمة أمام العظمة الالهية اللامتناهية؛ 4. الجدير بالانسان ان يستشعر الحاجة و الاستعانة بالله المطلق دائماً، فلا تنحصر الاستعانة بجانب دون آخر من جوانب الحياة.

الجواب التفصيلي

مفهوم العبادة

قد تفسر العبادة بمعان ثلاثة- في اللغة-:

الأول: الطاعة. و منه قوله تعالى: "أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ"[1] فإن عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة هي إطاعته.

الثاني: الخضوع و التذلّل. و منه قوله تعالى: "فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ"[2] أي خاضعون متذلّلون.

الثالث: التألّه. و منه قوله تعالى: "قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ".[3]  و إلى المعنى الأخير يصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة.

و قد نلاحظ أمام هذا الحديث عن التنوّع في المعاني، أنها تنطلق من معنى واحد، و هو الخضوع المطلق الذي يختزن في داخله معنى الاستسلام للمعبود و الذوبان فيه و الانسحاق أمامه، حتى ليحتوي في حالته الشعورية الإحساس بشي‏ء من الالوهية أو بالالوهية كلها في ذات المعبود. فليست العبادة هي الخضوع و لا الطاعة و لا التألّه، و لكنها المعنى الذي يشمل ذلك كله في خصوصية مميّزة.[4]

" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ":

إياك ضمير منفصل، و محله النصب مفعولا للفعل الذي بعده، و قدم للحصر و الاختصاص .. و المعنى نعبدك، و لا نعبد سواك، و نستعين بك، لا بغيرك، و خاطب العبد ربّه بضمير المفرد إخلاصا في التوحيد، و تنزيها عن الشريك، و من أجل هذا لا يخاطب الواحد القهار بصيغة الجمع .. أما ضمير نحن في نعبد و نستعين فللمتكلم و من معه، لا للتعظيم. و ليس معنى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ان اللّه أهل للعبادة و كفى، بل تدل الآية أيضا على ان الإنسان مخلوق كريم حرره اللّه من العبودية و الخضوع إطلاقا إلا للحق الذي يعلو على كل شي‏ء، و لا يعلو عليه شي‏ء .. و بديهة ان الحرية التي لا يحدها الحق تنعكس الى فوضى.[5]

و لا أعدو الحقيقة إذا حددت الحرية بالايمان باللّه، و التعبد له وحده لأن من تعبد للحق دون سواه فقد تحرر من الباطل و من تحرر من عبادة الحق فقد عبد الباطل حتما، و التفكيك محال إلا عند فوضوي، لا يؤمن بحلال و لا بحرام، و لا بشي‏ء على الإطلاق إلا بنفسه وحدها لا شريك له.[6]

الإنسان بين يدي اللّه

و نحن لو تأملنا في الآية المباركة، نجد أن لحن السّورة يتغير في هذه الآية، إذ يبدأ فيها دعاء العبد لربّه و التضرّع إليه؛ فالآيات السابقة دارت حول حمد اللّه و الثناء عليه، و الإقرار بالإيمان و الاعتراف بيوم القيامة، و في هذه الآية يستشعر الإنسان حضوره بين يدي اللّه ... يخاطبه و يناجيه، يتحدث إليه أولا عن تعبّده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ".

بعبارة اخرى: بعدما يكتمل الإنسان في جانبه العقائدي، و تترسخ عنده العقيدة التوحيدية العميقة و يتجذر عند توحيد العبادة و توحيد الأفعال - بمعنى الاعتراف بأن اللّه سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة و الطاعة و الخضوع، و بالتشريع دون سواه[7]، و تجنب أيّ نوع من العبودية و التسليم، لغير ذاته المقدسة، و الإيمان بأن اللّه هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه)[8]  - تكون ثمرة هذا الاعتقاد أن الإنسان يصبح معتمدا على (اللّه) دون سواه، و يرى أن اللّه هو القادر العظيم فقط، و يرى ما سواه شبحا لا حول له و لا قوّة، و هو وحده سبحانه اللائق بالاتكال و الاعتماد عليه في كل الأمور. فيتحرر الإنسان من الانشداد بأي موجود من الموجودات، و يرتبط باللّه وحده و تسمو روح الإنسان و تتوسّع آفاق فكره، ليرتبط بالأبدية و اللانهاية دون الأطر الضيقة الهابطة.[9]

يقول الامام الرضا (ع) في تفسيره للآية المباركة: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ رَغْبَةٌ وَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَ إِخْلَاصٌ لَهُ بِالْعَمَلِ دُونَ غَيْرِهِ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اسْتِزَادَةٌ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَ عِبَادَتِهِ وَ اسْتِدَامَةٌ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ نَصَرَه‏".[10]

و في الختام نشير الى بعض النكات التفسيرية في الآية المباركة:

1. المعبود الحق هو الله تعالى لا سواه، وهذا ما يدل عليه تقديم المفعول "إياك" الدال على الحصر.

2. ينبغي ان تكون سلوكيات الانسان منسجمة و متوافقة مع الفكر الصحيح و العقائد الحقة.

3. ينبغي على الانسان أن لا يرى لنفسه وجوداً او قيمة أمام العظمة الالهية اللامتناهية فلا يتلفظ او يتحرك بما يوحي بان لها شأناً كبيراً كاستعمال الضمير "نحن" بدل "أنا"، ثم ان هذه الأنا من المناسب جداً ان تردف بما يدل على ضعفها و فقرها، و هذا  المعنى من أهم آداب العبادة الذي يلحظ بوضوح في كتب الادعية.

4. على الانسان ان يستشعر الحاجة و الاستعانة بالله المطلق دائماً، فلا تنحصر الاستعانة بجانب دون آخر و هذا الامر من لوازم التوحيد الصحيح.

5. على المؤمن ان يستشعر بانه و ان كان حراً في اختيار دينه و عبادة الله تعالى و لكنه لا يتمكن من ذلك من دون الاسناد و المدد و العون الالهي.[11]

 


[1] يس، 60.

[2] المؤمنون، 47.

[3] الرعد، 36.

[4] فضل الله، السيد محمد حسين، تفسير من وحي القرآن، ج‏1، ص: 55- 56، دار الملاك للطباعة و النشر، بيروت، 1419 ق، الطبعة الثانية.

[5] مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، ج‏1، ص: 34،  دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الاولى،  1424 ق.

[6] نفس المصدر، ص 35.

[7] انظر: المواضيع التالية: «مراتب التوحید»، سؤال 1557 (الموقع: 1650)؛ « الله و الصفات الثبوتية و السلبية»، سؤال 2330 (الموقع: 2859).

[8] مع عدم إنكار عالم الأسباب و المسببات.

[9] مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏1، ص: 48- 49، نشر مدرسة الامام علي بن أبي طالب (ع)، قم، الطبعة الاولى، 1421هـ.

[10] الشيخ الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تحقيق و تصحيح: غفاري، علي اكبر، ج 1، ص 310، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1413 ق.

[11] انظر: هاشمي، علي اکبر، تفسیر راهنما، ج 1، ذیل الآیه 5، من سورۀ الحمد، مرکز فرهنگ و معارف قرآن، قم، (بتصرّف يسير).

 

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280217 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258772 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129275 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115455 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89527 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    60958 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60312 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57350 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51472 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47673 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...