بحث متقدم
الزيارة
8069
محدثة عن: 2007/01/23
خلاصة السؤال
خاطب الله سبحانه نبیه الکریم قائلاً: "قُلْ لا أَمْلِکُ لِنَفْسِی نَفْعاً وَ لا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ" فهل ان طلب الشفاعة و الحاجات و الشفاء من النبی لا ینافی مدلول هذه الآیة؟
السؤال
خاطب الله سبحانه نبیه الکریم قائلاً: {قُلْ لا أَمْلِکُ لِنَفْسِی نَفْعاً وَ لا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فهل ان طلب الشفاعة و الحاجات و الشفاء ینافی مدلول هذه الآیة؟
الجواب الإجمالي

ما ترید هذه الآیة الکریمة بیانه هو إثبات التوحید الأفعالی و نفی استقلال النبی (ص)عن الله سبحانه فی وجوده و سائر شؤونه حیاته. و علیه فلا وجود لأی منافاة بین هذه الآیة و الآیات التی تنسب الفعل و الشفاعة و.... إلى شخص الرسول الأکرم (ص)بإذن الله و إرادته، کما إنه لا یوجد أی أمر فی الآیة یشیر إلى ما نفعله من تمسکنا بالأولیاء و من ضمنهم النبی الأکرم (ص)، و ذلک لأن ما یصدر عن الرسول من فعل کالشفاعة و رفع الحوائج و شفاء المرضى إنما یقع - کسائر أفعاله – فی طول فعل الله و بإذنه و إرادته.

و فی واقع الأمر إن النبی (ص)ینفی ادعاء الربوبیة و الألوهیة عن نفسه فی هذه الآیة الکریمة و أمثالها من الآیات الأخرى. خلافاً للمسیحیة و ما یقول به الغلاة من ألوهیة المسیح (ع) و الإمام علی (ع)، و کذلک ما یجری فی الکنیسة و أصحابها الذین اتخذهم البعض أرباباً من دون الله و قدموا أقوالهم و تعالیمهم على أوامر الله سبحانه و أحکامه.

و على هذا الأساس فعلى الرغم من أننا مأمورون بالتمسک و الرجوع إلى هؤلاء العظماء، و احترام مقامهم، و لکن من المحظور أن نرفع مقامهم إلى مقام الألوهیة و الربوبیة بأی حال من الأحوال، و لا نجعلهم على قدم المساواة مع الله سبحانه.

إضافة إلى ذلک نحن مکلفون باستلهام الدروس و العبر من سیرة هؤلاء العظماء و أن نعتبر وجودهم و مراتب کمالهم فی الوجود منحة إلهیة، حتى لا نقع فی حبائل الغرور و التکبر.

الجواب التفصيلي

الآیة الکریمة 8 من سورة الأنفال المبارکة و کذلک الآیة 49 من سورة یونس المبارکة و أمثالها من الآیات الأخرى إنما تنفی الاستقلال عن شخص النبی فی الوجود و الفعل لا غیر، و عند ما ینتفی مثل هذا الاستقلال عن الشخص الأول فی عالم الإمکان فمن الأولى أن ینتفی بالنسبة لسائر الناس و سائر الموجودات تبعاً لذلک.

و هذه الآیة الکریمة هی تفسیر لعدد من الآیات من أمثال الآیات 64 و 79 و 80 من سورة آل عمران المبارکة و التی تنفی ادعاء الربوبیة و الألوهیة من قبل أنبیاء الله الحقیقیین الصادقین، و تنهى الناس من أن یعتقدوا بهذا الأمر. و هنا -فی الآیة- النبی بدلاً من أن یجعل من نفسه هو الفاعل و المالک و صاحب الاختیار المطلق و المستقل عن الله سبحانه، و بدلاً من ادعاء الربوبیة و الألوهیة على الناس نجده یعلّق وجوده بتمام شؤونه و مستلزماته بالله سبحانه و إنما ذکر النفع و الضرر فی الآیة على سبیل المثال.و من جهة کونهما الفرد الأبرز فی حیاة الإنسان. لأن الهدف عند أغلب الناس فی جمیع أفعالهم هو جلب المنافع لنفسه و دفع الأضرار عنها، لا غیر. و إلا فإن کل الشؤون الوجودیة للموجودات و جمیع أفعالها و کمالاتها هی من الله سبحانه و لیس فقط جلب المنافع و دفع الأضرار.

ان اساس و جوهرة التوحید الافعالی و الصفاتی ( ان جمیع کمالات الموجودات هی منحة الهیة و الله هو الکمال المطلق و منبع الکمال و مفیضه) یکمن فی اعتقاد الانسان بأن نفسه و کماله و قدرته و فعله من الله سبحانه و على الإنسان أن یعلم ذلک و یعتقد به، و لا یجعل من نفسه محوراً مستقلاً أو محوراً آخر مع الله، و إذا ما أصابه خیر :

‌أ-    لا یکونن من أمثال قارون الذی یرى نفسه کل شیء حتى قال: "قَالَ إِنَّمَا أُوتِیتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِی أَوَلَمْ یَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَکَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَکْثَرُ جَمْعاً وَلا یُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ"[1].

‌ب-    لا یکونن من أمثال الأقباط قصیری النظر الذین جعلوا من الآخرین کل شیء حتى اعتقدوا بألوهیة فرعون و ربوبیته.[2]

‌ج-      و لا یکونن من أمثال فرعون و نمرود و ظنه أنه مطلق الاختیار فلا یرکن إلى مقولة فرعون الذی رفع عقیرته قائلا (أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلَى).[3]

‌د-    و لا یعتقد أن ما أصابه من خیر هو من غیر الله و من دون إذنه، إلا أن یعتبر الغیر و سیلةً و واسطة للفیض الإلهی (و حذار من القول أن مشکلتی یحلها الله أولاً و فلان ثانیاً) فیکون فی هذه الحالة مشرکاً لا موحداً، بل لا بد من شکر الله فی جمیع الأحوال و الاعتقاد بأنه هو المفیض و المعطی للقوة و الکمال و القدرة و أنه هو الذی یعالج المشاکل و یحلها بوسیلة من الوسائل و واسطة من الوسائط.

و هذا هو الدرس الذی تقدمه لنا هذه الآیات و أمثالها، و إن شخص النبی الأکرم (ص)هو القدوة و المثل الأعلى للناس فی هذا المیدان، حتى یتخلقوا بأخلاقه فکلما کان أکثر تقدماً و رقیاً تکون معرفتهم و تواضعهم أکثر بالنسبة للحق تعالى و یتوالى شکرهم للنعم الإلهیة أکثر فأکثر.[4] و على هذا الأساس فإن هذه الآیات التی تنفی مقام الربوبیة و المالکیة على الاستقلال عن النبی الأکرم فإنها لا تتنافى بأی حال من الأحوال مع الآیات التی تحثنا على التمسک به و الرجوع إلیه و طلب الحاجات و الشفاعة و الشفاء و... منه (ص)، کما أنها لا تتنافى مع ما نسب إلى العظماء من مقامات و أمور فی طول فعل الله و بإرادته و إذنه، و ذلک لان النفی هنا للاستقلالیة و فی الآیات الاخرى اثبات الفاعلیة الطولیة ای الفاعلیة فی طول فاعلیة الله، و مثال ذلک المعجزات التی جاء بها عیسى بن مریم (ع)، فهی و إن کانت تنسب إلیه لکنها مقیدة بقوله "بإذنی"[5] و ذلک لنفی توهم الألوهیة و الاستقلال التی نسبها إلیها الناس.

و إذن لا بد من التوجه إلى أن إدراک مقامات الأولیاء و الاعتراف بالکرامات الصادرة عنهم لا یوجب الاعتقاد بأنهم یؤثرون بشکل مستقل عن الله سبحانه.

و لکن على الرغم من الاحترام اللائق بمقام هؤلاء العظماء لا بد من حفظ الفارق بینهم و بین الخالق و الاعتقاد بأنهم عباد مرتبطون بالذات المقدسة بکل وجودهم. و یکون شکرنا و عبودیتنا لله وحده لا شریک له.

للإطلاع بشکل أوسع یراجع:

جوادی آملی، عبد الله، مراحل اخلاق در قرآن" مراحل الأخلاق فی القرآن"، منشورات الإسراء، قم.

العلامة الطباطبائی محمد حسین، بررسى‏هاى اسلامى" دراسات إسلامیة"، منشورات الهجرة، قم، ص 269 – 277.

وانظر: تفسیر المیزان و سایر التفاسیر ذیل الآیات 8 الأنفال، و 49 یونس، و کذلک آیات79- 80 و 64 آل عمران.



[1] القصص: آیة 76 و 82.

[2] الزخرف: آیة 54.

[3] النازعات: آیة 24.

[4] انظر: مراحل اخلاق در قرآن" مراحل الأخلاق فی القرآن" ص 86 – 101.

[5] المائدة: آیة 110.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279435 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257246 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128142 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113244 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88997 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59836 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59551 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56856 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49737 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47165 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...