بحث متقدم
الزيارة
8352
محدثة عن: 2007/12/12
خلاصة السؤال
لماذا کان القرآن باللغة العربیة؟
السؤال
لماذا کان القرآن باللغة العربیة و لم یکن بلغة اخری؟
الجواب الإجمالي

ان اللغة هی أهم وسیلة للارتباط بین الناس، و قد اعتبر الله تعالی القدرة علی التکلم و البیان من نعمه الکبری و هو ما یشیر فی بدایة سورة الرحمن. و الانبیاء الذین بعثهم الله لهدایة الناس کان من الضروری ان یکونوا یتکلمون بلغة القوم الذین بعثوا الیهم من أجل ان یحققوا الارتباط مع أقوامهم و یبینوا لهم التعالیم الاخلاقیة و الاحکام و العقائد بنفس تلک اللغة.

و مع الالتفات الی ظروف ما قبل البعثة و التی کانت حاکمة علی عرب الجاهلیة فان الله بعث النبی الاکرم (ص) الی العرب، فیجب ان یکون متکلماً بلغتهم و یأتی بمعجزة قابلة للفهم من قبلهم، و لذا نزل القرآن و هو معجزة النبی (ص) باللغة العربیة ایضاً، علی انه لا ینبغی التغافل عن الخصوصیات الذاتیة للغة العربیة و منها قواعدها فی الفصاحة البلاغة.

اما السؤال الآخر فهو انه لماذا کان آخر أنبیاء الله عربیاً لیکون کتابه عربیاً أیضاً تبعاً لذلک؟

ینبغی القول فی الجواب، انه مع کون العرب شعباً لهم اعتزاز خاص و تعصب للغتهم و تقالیدهم و معتقداتهم و أنسابهم (العامل الداخلی للحفظ) و لم تستطع ای حکومة و سلطة علی مر التاریخ ان تجبرهم علی تغییر لغتهم (عدم العامل الخارجی للتغییر) و القدرة الفائقة للغة العربیة علی بیان اکبر حجم من المطالب فی اقل حجم من الالفاظ من دون أی ابهام او اضلال، فان اختیار ارض الحجاز و اللغة العربیة هو افضل طریق للدفاع الطبیعی غیر الخارق العادة عن الدین و بقاء الدین الخاتم و کتابه، و بناء علی هذا فان أمر اسباب نزول القرآن باللغة العربیة هو حفظه و صیانته الأبدیة.

الجواب التفصيلي

ان من أحد السنن الالهیة هو ارسال الانبیاء لهدایة الناس، و کل نبی کان یتکلم بلغة القوم الذین ارسل الیهم، لان اللغة هی الوسیلة الوحیدة للارتباط بین الناس، و کان علی الانبیاء ان یکونوا علی ارتباط مع الناس، و تکلم الانبیاء بلغة اقوامهم هو من السنن الالهیة الحتمیة، یقول الله تعالی: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِیُبَیِّنَ لَهُمْ »[1] و هذه السنة ثابتة حتی فی مورد الانبیاء الذین کانت دعوتهم عالمیة بالرغم من کونهم مبعوثین لهدایة جمیع الخلق (مثل الأنبیاء اولی العزم)، و لکنهم یتکلمون بلغة القوم الذین بعثوا فی بدایة بعثتهم الیهم و لولا ذلک لم یمکن فهم و قبول شریعة ذلک النبی حتی من قبل القوم الذین بعث فیهم.

و القرآن حقیقة فوق اللغة، و هو قبل ان یظهر باللغة العربیة کان له وجود فی مرحلة من الوجود لم یمکن لعقول البشر ان تصل الیها و الله انزله من موطنه الاصلی و جعله فی مستوی فهم البشر و اظهره بلباس اللغة العربیة، عسی ان تأنس به عقول البشر و تفهم حقائقه.[2]

اذن، لب القرآن و اصله فوق اللغة و الدخول فی اطار لغة خاصة، اما حول نزوله باللغة العربیة، فینبغی القول اضافة الی الخصوصیات الذاتیة للغة العربیة التی هی لغة لها قواعدها الخاصة و هی من ارقی اللغات فی الفصاحة و البلاغة، فان نبی الاسلام (ص) قد بعث الی قوم یتکلمون العربیة فکان یجب أن یأتی بمعجزة قابلة للفهم من قبلهم من اجل ان لا ینکروه، و لکی یؤمنوا بالله و یجاهدوا من أجل نشر الدین، و بالطبع فان کونه قابلا للفهم لیس بمعنی فهم جمیع حقائق القرآن، ذلک ان حقائقه لا متناهیة بل المقصود فهم اللغة و الفهم الاجمالی لبعض الحقائق.

کان عرب الجاهلیة قبل البعثة یعیشون أسوء ظروف الحیاة و لأجل هذا فقد بعث الله النبی (ص) من بین العرب، یقول أمیر المؤمنین علی (ع) حول ظروف الجاهلیة قبل الاسلام و مجیء النبی (ص): «بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِی حَیْرَةٍ وَ حَاطِبُونَ فِی فِتْنَةٍ قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ وَ اسْتَزَلَّتْهُمُ الْکِبْرِیَاءُ وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِیَّةُ الْجَهْلَاءُ حَیَارَى فِی زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ وَ بَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ فَبَالَغَ ص فِی النَّصِیحَةِ وَ مَضَى عَلَى الطَّرِیقَةِ وَ دَعَا إِلَى الْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ».[3]

ان وجود مثل هذه الظروف هو الذی أدّی الی ان یبعث النبی (ص) الی العرب، اذن فیجب ان یکون القرآن باللغة العربیة لا بغیرها من اللغات. و لکن المهم هو الاستفادة من القرآن، و هی لیست منحصرة بالعرب، یقول الله تعالی: «وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِیًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آیاتُهُ ءَ أَعْجَمِیٌّ وَ عَرَبِیٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذینَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذینَ لا یُؤْمِنُونَ فی‏ آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَیْهِمْ عَمًى أُولئِکَ یُنادَوْنَ مِنْ مَکانٍ بَعید».[4]

و لکن یمکن أن یطرح سؤال آخر هنا و هو: انه لماذا کان النبی الخاتم (ص) عربیاً لیکون کتابه عربیاً أیضاً تبعا لذلک؟ فلما لم یکن هذا التوفیق من نصیب الشعوب و الاقوام الاخری؟

و هنا ینبغی ذکر عدة ملاحظات ثم نذکر الجواب:

الف- انه مادام الکلام عن النبی الخاتم (ص) فیجب ان یکون هناک جماعة یتلقون الرسالة و یحافظون علیها جیداً (العامل الداخلی للحفظ).

ب- و من جانب آخر فان هناک جماعة اخری دائماً تحاول ضرب الدین و حماته کما نشاهد ذلک فی تاریخ جمیع الانبیاء (العامل الخارجی للتغییر) و علیه فیجب ان یخطط لمواجهة هذه المشکلة.

ج- و من جانب آخر، فانه لیس من المقرر أن یحافظ علی الدین دوماً - و خصوصاً بعد وفاة النبی (ص)- عن طریق المعجزة و الأعمال الخارقة للعادة.

و بالالتفات الی هذه المقدمات نأتی الی الناس و بیئات حیاتهم لنری انه فی أی بیئة و ظروف یمکن أن تحقق هذه الملاحظات بشکل افضل:

اوّلاً: ان العرب اناس متعصبون بشکل خاص للغتهم و تقالیدهم و معتقداتهم و انسابهم بحیث لا یمکن فصلهم عن لغتهم و ثقافتهم حتی انه فی عصرنا الحاضر و بعد کل هذه الاعلام للعلمنة، لم یکونوا مستعدین للتخلی عن زیّهم التقلیدی (و هذا یعتبر بمثابة العامل الداخلی للحفظ).

ثانیاً: لم یکن عرب الحجاز متمسکین بلغتهم الام فقط، بل انه لم تستطع ای حکومة و سلطة خارجیة علی مر التاریخ ان تقهرهم علی ذلک، أی انهم غیرقابلین للتأثر من الخارج (عدم العامل الخارجی للتغییر).

ثالثاً: ان لغة عرب الحجاز و لکثرة الضمایر فیها و اختلاف ضمائر المفرد و التثنیة و الجمع و اختلاف صیغ المذکر و المؤنث و تعدد صیغ الجموع و احتوائها علی الکنایات و الاستعارات و ... فهی تمتع بالامکانات الوفیرة لبیان اکبر حجم من المعانی بأقل حجم من الالفاظ من دون اضلال او ابهام.

و بالالتفات الی هذه الملاحظات یتضح انه من اجل بقاء الدین الخاتم و کتابه فان ارض الحجاز و اللغة العربیة افضل طریق للدفاع الطبیعی غیر الخارق للعادة عن الدین. فقد فتح القرآن طریقه فی أذهان عرب البادیة المغرمین بالکلام الفصیح و الموزون و بقی بعیداً عن التحریفات اللفظیة. و بناء علی هذا نزول القرآن باللغة العربیة کان من أجل حفظه و صیانته الابدیة.[5] و باطبع فانه یمکن القول بان نزول القرآن باللغة العربیة کان لطفاً و رحمة للعرب، و لو انه نزل بلغة غیر عربیة لم یؤمن به العرب و هم مجموعة کبیرة، یقول الله تعالی: «وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمینَ * فَقَرَأَهُ عَلَیْهِمْ ما کانُوا بِهِ مُؤْمِنین‏».[6]



[1]  ابراهیم، 4.

[2]  تفسیر المیزان، ج 18، ص 122 – 123.

[3]  نهج البلاغة، الخطبة 94.

[4]  فصلت، 44.

[5]  فصلیة بینات، العدد 27، ص 37 – 41.

[6]  الشعراء، 198، 199.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279433 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257223 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128134 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113232 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88989 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59831 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59545 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56852 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49722 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47161 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...