بحث متقدم
الزيارة
5677
محدثة عن: 2010/01/16
خلاصة السؤال
هل صحیح إن الله تعالی یتنازل فی الآخرة عن حقّه الذی فی ذمة عباده و لکنه لا یتنازل عن حق الناس؟
السؤال
هل صحیح إن الله تعالی یتنازل فی الآخرة عن حقّه الذی فی ذمة عباده و لکنه لا یتنازل عن حق الناس؟ لأنی قد سمعت و لمرات عدیدة إن الله رحیم و هو یعفو و یتنازل عن حقه فی الآخرة لعباده؛ فمثلاً سمعت فی أحد البرامج التی تبث عبر الأقمار الصناعیة فی شهر محرم من هذه السنة أن النبی(ص) طلب من الله مراراً أن یعفو عن المسلمین فی ساعة الاحتضار و إن الله یعفو بعدة شروط؛ مثل أن یتوب الإنسان قبل سنة من موته فإنه یعفو عنه، و فی المرة الثانیة طلب النبی من الله أن یسهّل هذا الشرط فقال الله إذا تاب الإنسان قبل ستة أشهر من موته فإنه یغفر له جمیع ذنوبه، و فی الختام یقول الله لنبیه إذا حوّل الإنسان وجهه الی جهة القبلة فقط فی ساعة الموت فإنه یغفر له جمیع ذنوبه.
الجواب الإجمالي

التوبة طریق لإنقاذ الإنسان من الهوان و العقاب الإلهی، و معنی التوبة الرجوع عن الذنب و اللجوء الی الله. و الله لا یقنط الإنسان بسبب ذنوبه بل یدعوه الی التوبة النصوح الخالصة و الصادقة و یعده أیضاً بقبول توبته. و لیست التوبة بالعمل الیسیر، فإن ترک الذنب أیسر من التوبة. و من شروط التوبة أداء حق الله و حق الناس و إذا لم تؤد هذه الحقوق فلا تقبل التوبة. و الذی یستفاد من النصوص الدینیة هو أن الله یتشدّد فی حقوق الناس أکثر من تشدّده فی الحقوق الإلهیة، و لکن لیس معنی ذلک تساهله و عفوه عن حقوقه من دون حکمة.

الجواب التفصيلي

یجب التذکیر أولاً بأن الروایات و المعارف الإسلامیة ترید أحیاناً أن تبیّن عظمة حق الناس فتقارنه مع حق الله فتذکر أن الله قد یتنازل عن حقه و لکنه لا یتنازل عن حق الناس. و هذا الأمر و إن کان صحیحاً و لکن ینبغی مراعاة بعض الامور فی مورده:

الأول: أن حق الله عظیم و ثقیل جداً. و هناک روایات واردة فی عظمة الحقوق الإلهیة تؤکّّّّّّّد علی وجوب احترام هذه الحقوق. و الصلاة هی أحد الحقوق الإلهیة التی أوعد تارکها بعذاب شبیه لعذاب الکفّار.[1]

الثانی: یجب الحذر من أن یؤدی الاعتقاد برحمة الله الی تخلّف الإنسان عن أداء تکالیفه الإلهیة و الی تأخیر التوبة.

الثالث: طبقاً لبعض الآیات فإن التوبة لا تقبل من الإنسان المتیقن من موته. یقول الله تعالی ناقلاً لقول فرعون: " آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائیلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمین‏حتی إذا أدرکه الغرق قال آمنت أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الذی آمنت به بنوإسرائیل و أنا من المسلمین. الآنَ و قد عصیت قبل و کنت من المفسدین"[2] و فی ذیل هذه الآیة یقول الإمام الکاظم(ع): "َو قد علم الله أن فرعون لا یتذکّر و لا یخشی الّا عند رؤیة البأس ... فلم یقبل الله إیمانه ...".[3]

إذن فالروایات المشابهة لما ذکرته فی السؤال یجب أن تفهم و توضّح بما لا یتنافی مع هذا الأصل القرآنی القطعی. فکل هذه الروایات واردة فی الشخص الذی لم یعانی صعوبات الموت، و یؤمن باختیاره و من دون عامل خارجی.

و "التوبة" کلمة عربیة و هی بمعنی الرجوع.[4] و التوبة من الذنب بمعنی الرجوع عن الذنب و قد ورد فی نصوصنا الدینیة و منها القرآن "توبة العبد" و "توبة الله" أیضاً، و معنی توبة العبد رجوع العبد الی الله بترک ذنوبه، و توبة الله معناها رجوع الله نحو عبده بنظر اللطف و الرحمة. و توبة الإنسان المذنب واقعة بین توبیتین من الله.[5] حیث إن الله یعود أولاً الی الإنسان المذنب و بذلک یتوفّق الانسان المذنب الی التوبة و فی المرة الثانیة یعود نحو عبده بعد توبته فیقبل توبته و یعفو عنه.

التوبة الحقیقیة:

إن ما یستفاد من النصوص الدینیة هو أن التوبة لیست بالأمر الیسیر، یقول الإمام أمیر المؤمنین علی(ع): "ترک الخطیئة أیسر من طلب التوبة" [6]و لیست التوبة قول استغفر الله و حسب، بل التوبة هی أن یعود الإنسان بکل وجوده نحو الله، و یندم علی ذنبه و یعزم بصورة جادة علی عدم تکراره و إذا کان قد ضیّع حقاً سواء کان حق الله أو حق الناس فإنه یجب علیه أداؤه.

و القرآن یدعو المؤمنین الی "التوبة النصوح"[7]، سئل الإمام أمیر المؤمنین علی (ع) عن التوبة النصوح فقال(ع): "ندم بالقلب و استغفار باللسان و القصد علی أن لا یعود".[8]

و قد روی عن أمیر المؤمنین(ع) إنه سمع رجلاً یقول استغفر الله. فقال: " ثکلتک امّک أتدری ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلیّین و هو إسم واقع علی ستة معان أوّلها الندم علی ما مضی و الثانی العزم علی ترک العود إلیه أبداً و الثالث أن تؤدی الی المخلوقین حقوقهم حتی تلقی الله عز و جل أملس لیس علیک تبعة، و الرابع أن تعمد الی کل فریضة علیک ضیّعتها فتؤدّی حقّها و الخامس أن تعمد الی اللحم الذی نبت علی السحت فتذیبه بالأحزان حتی تلصق الجلد بالعظم و ینشأ بینهما لحم جدید و السادس أن تذیق الجسم ألم الطاعة کما أذقته حلاوة المعصیة فعند ذلک تقول استغفر الله".[9]

حیث یدلّ هذا الحدیث الشریف علی أن شرط قبول التوبة هو تدارک الواجبات الفائتة و أداء حقوق الناس. فیجب علی الإنسان أن یتدارک حقوق الله و الناس التی ضیّعها لکی تغفر له ذنوبه.

فإن الله یتشدّد کثیراً بالنسبة لحقوق الناس فهو لا یرضی ما لم یرضی صاحب الحق، و لا یقبل التوبة عنه. و ورد فی الحدیث: " جَوْرُ سَاعَةٍ فِی حُکْمٍ أَشَدُّ وَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مَعَاصِی سِتِّینَ سَنَة ".[10]

و نقرأ فی حدیث آخر: "الظلم ثلاثة: ظلم یغفره الله و ظلم لا یغفره الله و ظلم لا یدعه الله. فأما الظلم الذی لا یغفره فالشرک و أما الظلم الذی یغفره فظلم الرجل نفسه فیما بینه و بین الله و أما الظلم الذی لا یدعه فالمداینة بین العباد".[11]

التأخیر فی التوبة:

الوقایة دائماً خیر من العلاج، فعلی الإنسان أن یحاول عدم ارتکاب الذنوب و فی حالة ارتکابه للمعصیة علیه أن یتوب فوراً و لا یتماهل فیها، لأن التسویف فی التوبة و تأخیرها هو من وساوس الشیطان الذی یسعی عن هذا الطریق الی سلب توفیق التوبة من الإنسان.

و التوبة واجب فوری فیجب التوبة بعد ارتکاب الذنب مباشرة، و قد أوصی لقمان ابنه قائلاً "یا بنی لا تؤخّر التوبة فإن الموت یأتی بغتة".[12]

فالموت یکون فجأة و قد یحلّ أجل الموت قبل أن یوفّق المذنب للتوبة فیموت من دون توبة. و کذلک فإن إیمان الإنسان و اعتقاده یضعف علی أثر کثرة الذنوب و لیس فقط هو لا یتوب بل من الممکن أن یقوم بتکذیب کثیر من العقائد و یصیر کافراً و یموت علی الکفر. (ثم کان عاقبة الذین أساؤا السّوای أن کذّبوا بآیات الله و کانوا بها یستهزؤن).[13]

صحیح أن "التوبة مقبولة من کل عاص ما لم ییأس من الحیاة.[14] و لکن یجب الالتفات الی أن التوبة کلما اخّرت فإنها تکون أشقّ، لأن نفس الإنسان کلّما تذوّقت طعم المعصیة أکثر کان ترکها أشق.



[1] الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج4، ص 22.

[2] یونس، 90.

[3] وسائل الشیعة، ج 16، ص 90.

[4] ابن فارس، مقاییس اللغة، ج1، ص 357، مکتب الإعلام الإسلامی، 1404 هـ.ق.

[5] اقتباس من سورة التوبة، 117.

[6] الکلینی، محمد بن یعقوب، اصول الکافی، ج2، ص 451، دار الکتب الإسلامیة، طهران 1365هـ ش.

[7] التحریم، 8.

[8] الحرانی، الحسن بن شعبة، تحف العقول، ص210، جامعة المدرّسین، قم 1404 هـ ق.

[9] نهج البلاغة، الکلمات القصار، الحدیث 409.

[10] جامع السعادات، ج2، ص 221؛ المجلسی، بحارالأنوار، ج 72، ص 352.

[11] الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، ج2، ص331.

[12] الدیلمی، الحسن بن أبی الحسن، إرشاد القلوب، ج1، ص 72، الشریف الرضی 1412 هـ ق.

[13] الروم، 10.

[14] الشیخ المفید، اوائل المقالات، ص 85، مؤتمر الشیخ المفید، قم، 1413 هـ.ق.

التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279432 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257221 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128133 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113231 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88987 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59830 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59544 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56851 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49721 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47160 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...