بحث متقدم
الزيارة
9149
محدثة عن: 2007/02/28
خلاصة السؤال
ما هو المراد من قول الله تعالى: {وَ مَنْ کَانَ فِی هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِی الآخِرَةِ أَعْمَى}؟ و هل أن الأعمى فی الآخرة لا یملک أی إحساس أو إدراک أو مشاهدة؟
السؤال
ما هو المراد من قول الله تعالى: {وَ مَنْ کَانَ فِی هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِی الآخِرَةِ أَعْمَى}؟ و هل أن الأعمى فی الآخرة لا یملک أی إحساس أو إدراک أو مشاهدة؟
الجواب الإجمالي

لیس المراد من العمى فی هذه الآیة الکریمة[i]، و ما یشابهها من الآیات[ii] هو العمى الجسمانی فی هذه الدنیا، بل المراد هو أن الشخص یجلب لنفسه العمى عن قصد و تعمد. بمعنى أنه على الرغم من أنه یرى التجلیات الإلهیة و أحقیة الرسول(صلى الله علیه وآله) و الأولیاء(علیهم السلام) و یصل إلى الحقیقة فی ذلک، إلا أنه لا یکون معتقداً بها اعتقاداً قلبیاً، و کأن عینه لم تر هذه الآثار والکرامات. فهو یتعامل مع القضایا الدینیة و کأنه لم یرها و لم یسمعها، و لذلک یتجنب قول الحق والإقرار به، و کما فی العبارة القرآنیة أصم، أبکم، أعمى باختیاره.

و حیث أن العقاب فی الآخرة یکون غالباً من نوع تجسم الأعمال ینکشف عمى قلبه و یظهر، فیکون سبباً فی عذابه و إیلامه، و عندما تشرق وجوه المؤمنین و تتجلى الآیات الإلهیة فی ساحة المحشر فإنه یکون أعمى لا یتمکن من مشاهدة جمال الحق الذی یأخذ بمجامع القلوب و لا وجوه المؤمنین المنیرة المشرقة و لا نعم الجنة ولذاتها، فلا یجد أی طریق إلى الجنة. و لکنه بعد أن یلقى فی جهنم تفتح عیناه فیرى أنواع العذاب المختلفة و یشاهد وجوه أهل النار المعذبین، و هذه الحالة کما هی حالته فی الدنیا حیث أغمض عینیه عن الحق و الحقائق و فتحها على الأباطیل و على الدنیا و طلابها.

إذن فلیس معنى العمى أنه یسلب منه الإدراک، بل إن إدراک الجمیع یصل إلى أوجه یوم القیامة، و إن الجمیع یصل إلى مرتبة عین الیقین فی الأمور الغیبیة کوجود الله و تصدیق الوحی و الملک و الجنة و النار و... و لم یتسنى لأی أحد التردد أو الإنکار لهذه الأمور یوم ذاک.



[i] {وَ مَنْ کَانَ فِی هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِی الآخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِیلاً} الإسراء، 72

[ii] {وَ نَحْشُرُهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِی أَعْمَى وَ قَدْ کُنْتُ بَصِیراً} طه، 124 - 125.

الجواب التفصيلي

بناء الإنسان و ترکیبه له أبعاد متعددة و مختلفة بعضها حسی ظاهری و بعضها داخلی باطنی، له ارتباط بروح الإنسان.

و على الرغم من کون القوى الظاهریة فی خدمة البدن و هی وسائل لتحصیل لذته و استمتاعه و تأمین حاجاته ـ کما هو الحال فی الحیوان ـ فهی بالإضافة لذلک تمثل القنوات التی تنقل إلى القلب الاطلاع و المعارف و ما یحرک عواطفه و أحاسیسه، و على هذا الأساس فإن هذه الحواس توجه الإنسان طیلة أیام حیاته، فإذا ما أحسن الإنسان استخدم هذه النعم الحسیة ـ خصوصاً السمع و البصر ـ و استفاد منها استفادة صحیحة، و استعمل هاتین الوسیلتین فی الطریق الصحیح و هو طریق ارتقاء إنسانیته و تکاملها، فحین ذاک یمکن ان یصدق علیه القول أنه سمیع بصیر، و لیس سامع و ناظر فقط.

و لکنه إذا لم یستفد من هذه النعم کما ینبغی، و أنه أغفل المعارف التی ترده عن طریقها فکأنه فی هذه الحالة لم یکن سامعاً و لا ناظرا ولم یقر بها، لأنه لم تعد لسمعه و بصره تلک الفائدة المرجوة التی من شأنها أن تمتعه بحیاة طیبة، وانعدام الفائدة هذا لا یعزى إلى قصور فی عین الشخص و إذنه، و إنما منشأ ذلک و علته هو سوء اختیار الإنسان و غفلته و عدم انتباهه لهذه الأمور.

و من هنا فعلى الرغم من مشاهدة الإنسان الأدلة و القرائن على وجود الله و خالقیته و رحمته و عنایاته إلا أنه لا یعقد الإیمان به، و یرى بأم عینیه شواهد صدق النبی صلى الله علیه وآله و معجزاته، و لکنه لا یصدق النبی صلى الله علیه وآله، و لایذعن لأوامره، و یسمع النصوص النبویة بشأن الولی(علیه السلام)، و یطلع على کراماته و فضائله ولکنه ینکر ذلک، و یرد الولایة فی نهایة الأمر و لا یقبلها و لا ینضوی تحت ظلال هذه الولایة، و قد ینجازه ویقف بوجهه. أو أنه على الرغم من توجهه و معرفته بتذکیر الله تعالى و رسوله صلى الله علیه وآله و شواهد صدقه و قرائن ضرورة وجود المعاد و الیوم الآخر نجده منکراً للحیاة الأخرى و الثواب و العقاب و الجنة و النار و...، فإذا ما عاش مثل هذا الإنسان طیلة حیاته على هذه الکیفیة و بهذه الشاکلة، و أغمض عینیه عن الإنسانیة و الأمور المعنویة و طوى عنها کشحاً ، و لم یذعن و لم یطع الله و رسوله و ولیه، فإنه سوف یکون على ما هو علیه فی الآخرة التی تتجسم فی ساحتها الأعمال و یصار إلى الثواب و العقاب، فیحرم من مشاهدة جمال الله الذی یأخذ بمجامع القلوب، و وجه النبی صلى الله علیه وآله الملکوتی و أولیاء الله(علیهم السلام) و المؤمنین، کما أنه یحرم من مشاهدة نعیم الجنة و نعمها، إلى أن یسقط فی نار جهنم، و کما أنه لم یجد الباب لنیل سعادته فی الحیاة الدنیا بسبب عمى قلبه.

فإنه یحشر فی الآخرة أعمى کذلک، و لم یجد له إلى الجنة من سبیل.

و قد وردت العوامل التالیة فی القرآن الکریم بعنوان علل العمى و أسبابه:

الإعراض عن الله سبحانه و عبادة الدنیا و إطاعة الهوى،[1] العناد و التماس الذرائع فی أمور الدین[2]، نسیان الآخرة و عدم الاعتقاد بها،[3] منع الناس من الدخول فی دین الله و الافتراء على الله،[4] تکذیب الآیات الإلهیة و عدم تصدیق النبی صلى الله علیه وآله[5] قطع الرحم (وعدم قبول ولایة الولی(علیه السلام) و الطغیان و العصیان.[6]

وکذلک ورد فی الروایات عدة أمور کمصادیق العمى و عدم رؤیا الحق و هی:

کتمان ولایة الإمام علی(ع)، عدم أداء حجة الإسلام مع وجود الاستطاعة حتى الموت،[7] و کذلک وردت الإشارة فی الروایات لما أشارت إلیه الآیات.

و العمى فی الآخرة لا یعنی أن الشخص لا یکون له أی إدراک و إحساس فی الآخرة کما هو الحال فی العمى فی الدنیا، فالإنسان فی ساحة المحشر یدرک أنه أعمى، و أنه یدرک أن ما هو فیه غیر ما کان علیه فی الدنیا، و قد کان له بصر فی الدنیا و لم یکن له هنا، و من هنا یطلق لسانه بالاعتراض، کما کان یفعل فی الدنیا و کما هی عادته فی الاعتراض واللجاج.[8]

و من خلال ظاهر القرآن و بعض الروایات و تحقیقات المفسرین نصل إلى أن القیامة لها مواقف متعددة حتى یصل أهل الجنة إلى الجنة، و یلقى أهل النار فی النار فی نهایة الأمر، و ان عمى هذه المجموعة یرتبط بمواقف المحشر، فیحرمون من مشاهدة جلال الله و جبروته و عظمة أولیائه، و لکنهم بمجرد أن یردوا جهنم تفتح أبصارهم حتى یتضاعف عذابهم و تزداد حسراتهم لعدم رؤیة أولیاء الله(علیه السلام) و رؤیتهم وجوه أهل النار الکالحة.

و قد ذهب البعض من اصحاب النظرة الضیقة إلى أن المراد فی قوله {من کان فی هذه أعمى} هو العمى الجسمانی فی الدنیا، أی أن الإنسان الفاقد للبصر فی هذه الدنیا یحشر یوم القیامة أعمى حتى و إن کان من أهل البصیرة و الفقه، فی حین أن الآیة لا ترمی إلى هذا المعنى، و إنما المراد من قوله (فی هذه أعمى) هو العمى القلبی بینما المراد بقوله (فهو فی الآخرة أعمى) هو العمى الظاهری و التبلور و تجسم عمى القلوب فی الوجه، حتى یتسبب فی عذابه، و کما تقدم ان هذا العمى الأخروی یکون فی ساحة المحشر، و لکنه بمجرد أن یرد جهنم تفتح عیناه على العذاب و تجسم جمیع أعماله حتى یلاقی عذاباً أکثر، کما کان یعمل فی الدنیا بهذه الکیفیة، أی أنه کان یغمض عینیه عن آیات الله و أولیائه بینما یقبل على متاع الدنیا و أصحابها و ملذاتها، أعاذنا الله و إیاکم من شرور أنفسنا.

مصادر البحث:

1-       جوادی آملی، عبد الله، فطرت در قرآن" الفطرة فی القرآن" ج12، الإسراء، قم، الطبعة الثانیة 1379، ص 97 – 104 و 139 – 140.

2-       جوادی آملی، عبد الله، معرفت‏شناسى در قرآن" المعرفة فی القرآن"، ج13، الإسراء، قم، الطبعة الثانیة، 1371، ص 357 – 362.

3-    الطباطبائی، السید محمد حسین، المیزان (الطبعة الفارسیة)، مکتب المنشورات الإسلامیة، قم، ج 13، ص 232 – 233 ؛ ج14، ص 314 – 316.

4-       الطیب، السید عبد الحسین، أطیب البیان، ج8، معرض الکتاب الإسلامی، طهران، الطبعة الثانیة، ص 287 – 288.

5-       قرائتی، محسن، تفسیر نور" تفسیر النور"، فی طریق الحق، قم، الطبعة الأولى، 1374، الآیة مذکورة فی الهوامش.

6-    القمی المشهدی، محمد بن محمد رضا، کنز الدقائق، مؤسسة الطباعة و النشر فی وزارة الإرشاد طهران، الطبعة الأولى، 1411 هـ .ق، ج 7 ص 463 و 523، و ج8، ص 368 – 371.

7-       مکارم، ناصر، التفسیر الأمثل، دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة السابعة عشرة، 1314 ذیل الآیات المذکورة فی الهوامش.



[1] طه، 124 – 127؛ الإسراء، 72 – 97.

[2] فصلت، 17.

[3] النمل، 66.

[4] هود، 18 – 28.

[5] الإنعام، 4، 5 ؛ الأعراف، 64 ؛ البقرة، 17 و 18.

[6] محمد، 22 – 23.

[7] انظر: أطیب البیان، ج18، ص 287 – 288 ؛ المیزان، ج 4، ص 314؛ کنز الدقائق، ج7، ص 523 – 524 وص 456 – 462 و ج8، ص 368 – 371.

[8] طه، 124 – 127.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279472 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257343 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128200 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113318 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89032 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59886 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59592 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56884 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49824 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47194 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...