بحث متقدم
الزيارة
5763
محدثة عن: 2012/11/17
خلاصة السؤال
لماذا قدّمت کلمة اللعب فی الآیة 32 من سورة الأنعام على کلمة اللهو، بینما قدمت کلمة اللهو على کلمة اللعب فی الآیة 64 من سورة العنکبوت؟
السؤال
قال تعالى فی سورة الأنعام الآیة 32: " وَ مَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْو" فقدم اللعب على اللهو فی وصف الدنیا، و لکنه فی مواضع أخرى مثل سورة العنکبوت 64 قال: " وَ مَا الْحَیَوةُ الدُّنْیَا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ" فما سبب ذلک؟
الجواب الإجمالي

وردت کلمتا "اللعب" و "اللهو" معاً فی ست سور من القرآن الکریم، و قد قدمت کلمة اللعب على اللهو فی أربعة منها بینما قدمت کلمة اللهو على اللعب فی الإثنتین الباقیتین. و هاتان الکلمتان متقاربتان جدّاً من حیث المعنى، فلا یؤثر التقدیم و التأخیر هنا فی إیجاد معنىً خاص. لکن یمکن بعد التأمل الوقوف على حکمة لهذا التقدیم و التأخیر سنتعرّض لها فی الجواب التفصیلی.

الجواب التفصيلي

وردت کلمتا "اللعب" و "اللهو" معا فی ست سور من القرآن الکریم، و قد قدمت کلمة اللعب على اللهو فی أربعة منها کالأیة الشریفة: "وَ مَا الْحَیَوةُ الدُّنْیَا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ  وَ لَلدَّارُ الاَخِرَةُ خَیر لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَ  أَ فَلَا تَعْقِلُون".[1]

و قد قدمت کلمة اللهو على اللعب فی الإثنتین الباقیتین، کالآیة الشریفة: "وَ مَا هَاذِهِ الْحَیَوةُ الدُّنْیَا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ  وَ إِنَّ الدَّارَ الاَخِرَةَ لَهِىَ الْحَیَوَانُ  لَوْ کَانُواْ یَعْلَمُون" و قوله تعالى "الَّذِینَ اتَّخَذُواْ دِینَهُمْ لَهْوًا وَ لَعِبًا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَیَوةُ الدُّنْیَا  فَالْیَوْمَ نَنسَاهُمْ کَمَا نَسُواْ لِقَاءَ یَوْمِهِمْ هَذَا".[2]

"اللعب" هو الفعل المنتظم الذی له غایة خیالیة غیر واقعیة.[3] و "اللهو" ما یشغل الإنسان عما یعنیه و یهمه.[4] و بتعبیر آخر، اللهو، هو الإنشغال مع الغفلة.[5] و إعتبر البعض أن اللهو بمعنى اللعب.[6] إذ کان اللعب بما تنجذب النفس إلیه یصرفها عن الأعمال الواقعیة فهو من مصادیق اللهو هذا.[7]

و قد ذکروا "للعب" و "اللهو" فروقا نشیر إلى بعضها:

أولاً: أن اللعب هو الفعل الذی لا یکون له غایة عقلانیة و یکون له غایة خیالیة، و الهو ما لا یکون له غایة عقلانیة و لا خیالیة، و إن لم یکن خالیاً عن الغایة فی نفس الأمر غیر مستشعر بها.[8]

ثانیاً: اللعب، هو لعب الصبیان، کالعبث الذی لا فائدة فیه، أما اللهو، فهو لعب الشباب.[9]

ثالثاً: اللهو هو ما لا غایة له، مع أن اللعب هو الفعل الذی له غایة غیر محترمة، و قد تکون الحیاة الفردیة لهو، عندما لا یعین لها غایة نظراً للأمور السطحیة غیر المحترمة کالأکل و الشرب و غیر ذلک.[10]

و کلمة "اللعب" کما قدمنا، تعنی الفعل المنتظم الذی له غایة خیالیة غیر واقعیة کملاعب الصبیان، و هکذا الحیاة الدنیا، فهی لهو باعتبار، و لعب باعتبار آخر، لأنها فانیة و سریعة الزوال.[11]

لذا، فلا یوجد التقدیم و التأخیر بین هاتین الکلمتین إختلافاً  کثیراً فی المعنى، فلا تختلف الآیات فیما بینها کثیراً تبعاً لذلک.

و مع هذا یمکن الوقوف على بعض الأسباب لهذا التقدیم و التأخیر و هی:

1ـ أحد أسباب التقدیم و التأخیر، هی الآیات السابقة، لأن الآیات السابقة للآیات الأربعة التی قدّم اللعب فیها على اللهو، توجه الخطاب فیها للموجودات الأرضیة. فالآیات السابقة للآیة 32 من سورة الأنعام و الآیة 20 من سورة الحدید تتکلم عن الکفار و تنذرهم و تبصّرهم، و الآیات السابقة للآیة 36 من سورة محمد و الآیة 70 من سورة الأنعام توجه خطابها للمسلمین.

أما فی سورة العنکبوت حیث تقدمت کلمة اللهو فیها، فالکلام یدور فیها عن النعم التی أنزلها الله سبحانه على عباده کالأمطار و غیرها.

إذن، فالنتیجة التی یمکن الوصول إلیها هی أن سورة العنکبوت تصف الحیاة الدنیویة فی نفسها و بصورة مطلقة، فهذه الحیاة لو لم تکن إلهیة و لم تسر فی المسیر الإلهی، و لم تستغل النعم الإلهیة فیما أراده الله سبحانه، لا یمکن وصفها بوصف أفضل من اللهو و اللعب، و عندئذ تکون صفة اللهو ابلغ فی صدقها على هذه الحیاة من صفة اللعب، لذلک قدم اللهو على اللعب فی هذه الآیات، أما الآیات الثلاث التی قدمت فیها کلمة اللعب على اللهو فالخطاب فیها موجه لمن یعیش فی هذه الدنیا، فاذا نسیت هذه الموجودات الأرضیة العاقلة الباری عزّ و جلّ فیکون صدق صفة اللعب على حیاتهم و خیالهم الساذج و إن الدنیا عندهم کلعب الصبیان و انها تنقضی بسرعة، أکثرَ شیوعاً و سریانا من غیرها من الصفات، من هنا قدم الله سبحانه کلمة اللعب فی هذه الآیات.

2ـ الآیات التی قدّم فیها صفة اللعب، هی فی مقام تعریف مطلق الحیاة الدنیا (أی مفهومها) و المناسب به أن یذکر أولاً ما هو أقبح و ما لا فائدة فیه بوجه. ثم یذکر اللهو الذی فیه تلذذ بوجه.

أما فی سورة العنکبوت فالآیة فی مقام بیان مصداق الحیاة الدنیا فی الخارج، بقرینة قوله ـ هذه الحیاة ـ و یلزم فی التحقق الخارجی أن یذکر ما فیه التثبّت فی الخارج بالوضوح، و اللهو فیه قید زائد و صراحة مؤکدة جلیة.[12]

أما الآیة 51 من سورة الأعراف فلا تتناول کلا الحکمتین، بل تنقضهما معاً، إلّا إذا قلنا بأنها تحمل دلیلاً آخر على تقدیم کلمة اللهو، و هذا أقرب إلى الذهن.

3ـ لا حاجة إلى البحث عن سبب کل تقدیم و تأخیر بین الکلمات القرآنیة فأکثره لا یحمل سبباً و حکمة خاصة لذلک، بل قد یکون ذلک للجمال أو التنویع فی العبارات. و هنا أیضاً قد یکون من هذا الباب. و النتیجة إذن أن هذین المعنیین متقاربان و متشابهان جدّاً و یضمّ أحدهما الآخر إلى حد ما، و قد أتى الله سبحانه بها هکذا للفصاحة و التنویع.

 


[1] الأنعام، 32، محمد، 36، الحدید، 20، الأنعام 70.

[2] العنکبوت، 64، الأعراف، 51.

[3] الطباطبائی، سید محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، ج 14، ص 259، منشورات جامعة المدرسین فی الحوزة العلمیة، قم المقدسة.

[4] الراغب الإصفهانی، حسین بن محمد، المفردات فی غریب القرآن، تحقیق: صفوان عدنان الداودی، ص 748، دار العلم، الدار الشامیة، دمشق، بیروت، 1412 ق.

[5] قاموس القرآن، ج 6، ص 211.

[6] إبن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، ج 15، ص 259، دار صادر، الطبعة الثالثة، بیروت، سنة 1414 ق.

[7] الطباطبائی، سید محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، ج 14، ص 259، منشورات جامعة المدرسین فی الحوزة العلمیة، قم المقدسة.

[8] الگنابادی، سلطان محمد، تفسیر بیان السعادة فی مقامات العبادة، ج 3، ص 43، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، الطبعة الثانیة، 1408 ق، المیزان فی تفسیر القرآن، ج 14، ص 259.

[9] أبو الفتوح الرازی، حسین بن علی، روض الجنان و روح الجنان فی تفسیر القرآن، ج 7، ص 270، تحقیق: الیاحقی، محمد جعفر، مؤسسة البحوث الإسلامیة للعتبة الرضویة المقدسة، مشهد، 1408 ق.

[10] المترجم، تفسیر الهدایة، ج 9، ص 456 و 457، مؤسسة البحوث الإسلامیة للعتبة الرضویة المقدسة، مشهد، الطبعة الألى، 1377 ش.

[11] الطباطبائی، سید محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، ج 14، ص 259، منشورات جامعة المدرسین فی الحوزة العلمیة، قم المقدسة.

[12] المصطفوی، حسن، التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، ج 10، ص 249، دار الکتاب للترجمة و النشر، طهران، 1360 ش.

 

التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279432 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257218 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128133 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113230 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88987 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59830 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59544 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56851 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49720 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47160 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...