Please Wait
3352
بما أنّ دين الإسلام هو الدين الشامل وخاتم الأديان السماوية، فلديه خطة لجميع جوانب الحياة البشرية، بما في ذلك الفردية والاجتماعية، إلخ. من بينها قضية حقوق الإنسان وتحدياتها في مجتمع اليوم. وتتجلى هذه القضية من خلال الاعتراف بحقوق الإنسان وكرامته، والتي سيتم شرحها فيما يلي بذكر بعض حقوق الناس تحت عنوان حقوق المواطنة من وجهة نظر الإسلام.
الحق في الحياة، حرية التعبير، حقوق المواطنين غير المسلمين، إنكار العنصرية، حرية الرأي والفكر، الاعتراف بحقوق الأقليات، مشاركة الناس في التشريع، إشرافهم على الحكام، إلخ، من أهم قضايا حقوق الإنسان في عالمنا اليوم، ولدى مدرسة الإسلام الواهبة للحياة آراء واضحة عنها.
بما أنّ دين الإسلام هو الدين الشامل وخاتمة الأديان السماوية، فلديه خطة لجميع جوانب الحياة، بما في ذلك الفردية والاجتماعية، إلخ. من بينها قضية حقوق الإنسان وتحدياتها في مجتمع اليوم. وتتجلى هذه القضية من خلال الاعتراف بحقوق الإنسان وكرامته، وهو ما يتضح بشكل أكبر من خلال ذكر بعض حقوق الانسان من وجهة نظر الإسلام في ما يلي:
- الحق في الحياة
إنّ أوّل حق من حقوق المواطنة وأهمها في الإسلام هو الحق في الحياة، لأن جميع الحقوق تتعلق بحياة الإنسان؛ أي أنّ حياة الإنسان ونفسه محترمة ولا يحق لأحد التعرض لها أو التعدي علیها. إن الإنسان يحظی بالاحترام والقيمة في العقيدة الاسلامیة لدرجة أن فلسفة وجود العالم تعتبر من أجل الإنسان: «هُوَالذی خَلَقَ لَکُمْ ما فِیالأَرضِ جَمِیعَاً».[1]
إنّ حق الحياة من أهم حقوق هذا المخلوق المتصف بالكرامة، ولا يجوز سلب ذلك منه، باستثناء الحالات التي تحددها الشريعة الإسلامية، ويتم ذلک من خلال اصدار حکم في محکمة تقوم على أساس العدالة. إن سلب حق الحياة من شخص دون جريمة(القصاص والفساد) يشبه قتل جميع البشر؛ أي أن موت شخص في المجتمع البشري هو كموت الجميع، وإحياء شخص هي بمثابة إحياء المجتمع: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بِغَیرِ نَفْس أَوْ فَسَادَاً فِیالأَرْض فَکَأَنَما قَتَلَالناسَ جَمِیعَاً وَ مَنْ أَحْیاها فَکأَنَما أَحْیاالناس جَمِیعَاً».[2]
من خلال النظر في مقاصد الشريعة، في ما يتعلق بفلسفة حقوق المواطن وحقوق الانسان نصبح على دراية أفضل و أكثر بالذي يستهدفه الشارع المقدس. يتضح من كلام علماء الإسلام أن مقاصد الشريعة تقوم على خمسة مبادئ أساسية، حيث تكون جميع حقوق المواطنة وحقوق الإنسان الصادرة عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في سياق الحفاظ على هذه الأمور الخمس. فتجاهل حقوق الإنسان وانتهاك الحقوق يعتبر تعدیا علی هذه المبادئ. تشمل هذه المبادئ علی ما يلي:
- المحفاظة على الدين، 2. المحفاظة على الحياة، 3. المحفاظة على الفكر، 4. المحفاظة على النسل، 5. المحفاظة على المال، نلاحظ أن ما هو المهم بعد المحفاظة على الدين كميثاق الحياة في العالم البشري، هو المحفاظة على الحياة، وأن قصد الشارع المقدس هو المحفاظة على حياة البشر. فجميع الحقوق والقوانين والأنظمة الدينية وغير الدينية هي جميعها لحماية ما سبق.
إن الشخص المواطن في النظام الإسلامي هو كائن له حقوق وعليه واجبات. وبعبارة أخرى، فإن العنصرين المكونين لشخصية الإنسان هما "الحقوق والواجبات". أي أن النظام الإسلامي، بقدر ما فرض واجبات دينية وسياسية واجتماعية على البشر، فإنه في المقابل قد تعهد له بمجموعة من الالتزامات المسماة ب"الحقوق"، واوّلها حق الحیاة.
حق الجنين في الحياة
بالإضافة إلى احترام حق الحياة في النظام الإسلامي، كذلک يتم احترام حق الجنين قبل الولادة. وتكون حمايته من مسؤوليات الشريعة الإسلامية؛ لذلك يعتبر الإجهاض جريمة، وحتى ممتلكات الجنين تكون محمية بموجب الشريعة الإسلامية، لكي لا يمس رأس ماله وممتلكاته وثروته ضرر في اوان طفوله، و هذا من المبادئ الأربعة لمقاصد الشريعة. ولهذا يصح الارث والوصية للجنين، وهذا يدل على مراعاة حقوقه المادية قبل الولادة.
- الحقوق الاجتماعية للمواطن في الإسلام
الفقيه والحقوقي الدكتور عبد الكريم زيدان، يقسم حقوق الأفراد في الحكم الإسلامي إلى قسمين:
أ) الحقوق السياسية: ان الحقوق السياسية، من وجهة نظر الحقوقیین، هي: الحقوق التي يحصل عليها الفرد باعتباره عضوا في جماعة سياسية؛ مثل الحق في التصويت والترشيح، وتولي الشؤون العامة والمسئوليات الاجتماعية، وحق الاشراف؛ الذي هو من حقوق الموكل على الوكيل، والحق في التشاور؛ وهذا في الواقع يتبع حق الأمة في انتخاب رئيس الحكومة، والحق في عزل رئيس الدولة؛ لأن الناس بمنزلة الموكل ورئيس الدولة بمنزلة الوكيل.
ب) الحقوق العامة: الحقوق العامة هي الحقوق التي تُمنح للإنسان، باعتباره عضواً في المجتمع، ولا يمكن حرمانه منها، وهي مصممة لحماية حياة الإنسان وماله وحريته.
- حرية العقیدة
في بعض آيات القرآن الكريم تم التأكيد على مبدأ "حرية العقيدة". أي أن طبيعة معتقدات القلب وقضايا الضمير أساسًا هي التي لا مجال فيها للإجبار والإكراه: «لا اکراه فی الدین قد تبین الرشد من الغی».[3]
«ولو شاء ربک لامن من فی الارض کلهم جمیعاً أفانت تکره الناس حتی یکونوا مؤمنین».[4]
النبي هو المسؤول عن إيصال الأوامر الإلهية، سواء آمن الخصوم به أم لا. «وقل الحق من ربکم فمن شاء فلیؤمن و من شاء فلیفکر».[5] «ولو شاء الله ما اشرکوا وما جعلناک علیهم حفیظاً وما انت علیهم بوکیل».[6]
إنّ الايمان بالله و بمادیء الاسلام لایمکن أبدا أن یکون مفروضا، بل انّما الطريقة الوحيدة لرسوخه في العقل والروح هو المنطق والاستدلال؛ لذلک أن المهم هو تبيين الحقائق والأوامر الإلهية حتی يفهمها الناس ويقبلوها بمحض إرادتهم و حريتهم.
البعد الآخر للحرية هو "حرية الفكر ". في عدة آيات، يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى التعقل والتدبر والتفكير في الكون، ويطلب منه معرفة فوائده وأضراره بقوة العقل، والسير نحو الكمال والتحرر من كل قيد، وقذارة، وضلال:
«سنریهم آیاتنا فی الآفاق وفی انفسهم حتی یتبین لهم انه الحق أو لم یکف بربک انّه علی کل شیء شهید».[7]
«و فی الارض آیات للموقنین * و فی انفسکم أفلا تبصرون».[8]
- حرية التعبير
فيما يتعلق بحرية التعبير، فان النظام الإسلامي يعترف بحق خاص للتعبير عن الرأي. ان خالق الإنسان، في نفس الوقت الذي يذکر فيه خلق الإنسان، يذكر أيضا إحدی النعم الملحوظة بعد خلقه، وهي "التعبير": «الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان* علمه البیان».[9]
التعبير، هو التكلم و التحدث لإظهار مافي الضمير. إنّ موضوع التعبير ليس موضوعاً صوریاً وظاهریاً؛ لأن الله قد وهب الانسان كل النعم الوجودية، حتى يتمكن من استخدامها في أعلی مستوی وأصح اتجاه لصالح نفسه والمجتمع. أما سبب تقديمه تعليم القرآن في الآیة الکریمة، هو لأنّ القرآن النعمة الرئيسية وفي ظله ينعم الإنسان بالبركات الإلهية بشكل صحيح. والتعبير عن الفكر إذا كان في ظل القرآن يكون مفيدا للبشر.
إن الله قد وهب الانسان حرية التعبير عن الفكر، وكذلک سمح له سماع أفكار الآخرين والاختيار الصحيح، وجعله حراً و مختاراً؛ لأن ساحة الحوار في النظام الإسلامي مفتوحة دائماً، ولكن بشرط أن تكون مبنية على "الحكمة والموعظ الحسنة"، وعدم المساس بأفكار وآراء الآخرين. لقد حدّد نص لقرآن الصريح حرية التعبير والحوار: «... فَبَشِّرْ عِبادِ
الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ».[10]
هناك بعض النقاط الأساسية في هذه الآية:
- حرية التعبير لجميع عباد الله، لأن كلمة "القول" في الآية تعني كل كلام و حدیث.
- أن الكلام وحرية التعبير والفكر ليست آحادية الاتجاه، فالمسلم يعبر عن رأيه ويسمع آراء الآخرين و يدرس أعمالهم، ثم يختار أحسن الاقوال.
- انّ عباد الله المهتدون والحکماء، هم الذين يستمعون إلى آراء الآخرين وافكارهم، وإذا وجدوها أفضل من رأيهم فانهم يقبلونها. هذه أعلی درجة للحرية في التعبير والفكر في الإسلام، ويشمل جميع البشر، طالما أنهم يحترمون حقوق الآخرين وحدودهم.
- الحوار السلمي
يوجّه القرآن الكريم المسلمين للحوار مع أهل الكتاب من خلال "الجدال الاحسن" و "الحوار السلمي" وأن يبنوا علاقاتهم على "المبادئ المشتركة": «وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».[11]
كان الكلام في الآيات السابقة عن كيفية التعامل مع "المشركين" العنيدين والجهلاء، الذين قد كلمهم بما يناسب حالهم، ولكن الكلام في هذه الآية هو عن النقاش والحوار بالّين و الرفق مع "أهل الكتاب". لأنهم قد سمعوا على الأقل بعض أوامر الأنبياء والكتب المقدسة، وكانوا أكثر استعدادًا لسماع الوحي الإلهي.
إن القرآن الكريم يأمر المسلمين أن یجتنبوا سبّ الكفار والمشركين. لأنهم بدورهم سيلجأون إلى نفس الطريقة:
«وَ لا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».[12]
ولما كان تبيين تعاليم الإسلام مصحوبًا بالمنطق والعقل والطرق السلمية، فإن القرأن الكريم يأمر بعض المؤمنين الذين كانوا يسبّون أصنام المشركين بدافع السخط الشديد على قضية عبادة الاصنام أن یجتنبوا السبّ. يعتبر الإسلام مراعاة مبادئ الأدب والعفة والنزاهة في التعبير أمرا ضروریا، حتى تجاه اسوأ الأديان واکثرها خرافة؛ لأنه لكل جماعة وأمة تعصبا لمعتقداتها وأفعالها، فالسب والمعاملة القاسية تجعلهم أكثر تعصبا لمعتقداتهم.
- حقوق المواطنين غير المسلمين
وبحسب نص القرآن، فلا إكراه ولا إجبار على قبول الدين، وهذا يعبر عن الحرية في قبول العقايد والافکار. علی هذا الاساس، وفقاً للآية 20 من سورة الحديد، أن العدالة الاجتماعية كما تشمل المواطنين المسلمين، فانّها تشمل المواطنین غير المسلمين ايضا من دون تمييز، وفيما يتعلق بمراعاة العدالة تجاههم بشكل خاص، فقد أمر القرآن الكريم بمراعاة العدالة تجاههم: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ».[13]
إن جميع الجهود وقبول الحرمان والقيود التي هي أمام المؤمن والمسلم، کل ذلک لأجل نيل رضا الله والمحبة الإلهية. إن الله تعالی يشير في هذه الآیة إلى محبوبیة المقسطین. من هم المقسطون؟ هم الذين يحسنون إلى غير المسلمين ويعاملونهم بالقسط والعدل.
واما أهل الكتاب، فإن الله تعالى يأمر الرسول(ص) بأن يقوم بمراعاة الحق والعدل في حالة التحكيم بينهم، وأن يحكم بينهم بالعدل: «... فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط ...».[14]
انّ رسول الله(ص) في دفاعه عن حقوق المواطنة و ضمان أمن الشخص "الذمي"، يعتبر من يضايقهم عدوا له. وهذا هو أقصى قدر من الاهتمام بحقوق المواطنين غير المسلمين و الدفاع عنها: «من آذی ذمیاً فأنا خَصْمُهُ، و من کنتُ خَصْمُهُ خَصَمْتُهُ یومَالقِیامِة».[15]
أما بالنسبة للحريات الفردية لغير المسلمين، فإن فقهاء الإسلام قد ذکر وا قاعدة يتم بموجبها حماية حقوق الطرفین، أي المواطنين تجاه بعضهم البعض، والحاكم الإسلامي تجاههم، لأن العلاقات الاجتماعية أساسًا تقوم على احترام حقوق الطرفين ومراعاتها؛ لذلک يقول رسول الله(ص) فی هذا الصدد: «لهم ما لنا، و علیهم ما علینا».[16]
- العدل هو أساس الحقوق الاجتماعية في الإسلام
انّ محور الدعوة السماوية وسلسلة دعوات الأنبياء(ع) مبنية على العدالة للمجتمع البشري. هناك نقاط مشتركة في دعوة الأنبياء، فبعد الدعوة إلى الله الواحد، وتجنب الطاغوت في مجال العقيدة، توجد دعوة في الجهة الاجتماعية و هي العدالة الاجتماعية، العدالة التي يتمتع بها جميع أفراد المجتمع، یقول القرآن الکریم: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...».[17]
فالتصريح بكلمة "الناس" في الآية المبارکة، هو دلیل علی ضرورة تمتع كافة البشر بالعدالة ومراعاة حقوق المواطنة. فالعدالة حق، وشعار دعوة الأنبياء جميعاً هو إقامة العدل للبشر، بغضّ النظر عن اللون والعرق والفقير والغني والمؤمن وغير المؤمن. ففي ظل العدالة تتحقق جميع حقوق المواطنة؛ لأن العدل هو الجوهر الذي ينظم كلّ الشؤون والتيارات التي تحكم نظام الحياة البشرية.
على حد قول الدكتور محمد عمارة: لقد اعترفت الحضارة الإسلامية بحقوق الإنسان وأدتها في الماضي البعيد، ليس فقط كحق من حقوق الإنسان، بل كواجبات إلهية وواجبات إنسانية ودينية، بحيث لا يجوز للإنسان [المسلم] أن يغض الطرف عنها، أو يبالغ فيها أو يتجاهلها ....، إن حماية الحياة، والعقل، والدين، والشرف، والمال، والوطن، والعلم، والعدالة، والمساواة، والحرية، ومشاركة الناس في الشؤون العامة من خلال المشورة، والامر بالمعروف و النهي عن المنکر، ليست مجرد حقوق الإنسان فقط، متى أراد أن يقوم بها ومتى أراد أن يغض الطرف عنها؛ وليست فقط كالإعلان، بل كلّها تعتبر واجبات إلهية ودينية و من الضروريات، وسيتعرض من عليه مسؤولیة القیام بها إلی المؤاخذة والمعاقبة عند التخلف والقصور في أدائها.
- الانتباه إلی المبادئ المشتركة
الإسلام دين عرض منذ نشأته دعوته للعالم تحت شعار التعايش السلمي، وهذا الدین يخاطب أهل الكتاب علی النحو التالي: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون».[18]
مع أن هذه الآية من الآيات المهمة التي تدعو أهل الكتاب إلى الوحدة، ولكن تختلف حجتها عن حجة الآيات السابقة. لقد دعت الآيات السابقة إلى الإسلام مباشرة، ولكن في هذه الآية قد تم أخذ النقاط المشتركة بين "الإسلام" و "أهل الكتاب" بعين الاعتبار.
إنّ القرآن يعلم المسلمين درساً مفاده: أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع الأهداف المقدسة، فلا تستسلموا، بل حاولوا اقناعهم للتعاونهم معكم، في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم واجعلوا ذلك أساسًا لتحقیق سائر أهدافکم المقدسة.[19]
- إنكار العنصرية
انّ القرآن الكريم يدین أي تفكير عنصري ويعتبر جميع البشر أبناء أب واحد دون تفوق عنصري وعرقي وديني: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ».[20]
إنّ من أهم مبادئ التعايش السلمي هو المساواة بين البشر، لأن العنصرية والغطرسة وإهانة الأمم والأديان الأخرى قد سببت مشاكل كثيرة للمجتمع البشري. الحربان العالميتان الأولى والثانية هما مثالان واضحان على هذه المشاكل.
الاختلاف في اللون والعرق والجنسية ليس مصدر فضيلة لأحد على الآخر. إن الفرق بين اللغات والألوان من وجهة نظر القرآن الکریم هو من الآيات الإلهية ووسيلة لمعرفة الأفراد والأشخاص وتمييزهم عن بعضهم البعض؛ لأنه إذا كان كل البشر متماثلين في الشكل واللون والطول، فستكون الحياة في صعوبة وفوضى.
وبحسب القرآن الكريم، فانه لا فضل للناس بعضهم علی بعض إلا بالتقوى، وأن جميع الناس يشكلون "الأسرة البشرية" و "الأمة الواحدة":
« كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَ مُنْذِرينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ...».[21]
إن كثيراً من آيات القرآن الكريم موجهة لجميع البشر؛ مثل «یا بنی آدم»،[22] و «یا ایّها الانسان».[23] فهذه العبارات تشير إلى أن الإنسانية معنى مشترك بين جميع سكان الأرض وأن الناس من مختلف المناطق لا يختلفون من حيث الإنسانية. في الاساس، كان البشر على مُرّ التاريخ، مختلفين من حيث اللغة واللون والعرق وما إلى ذلك، ولكن في نظر الإسلام جميعهم أبناء لأب و أم(آدم وحواء)، وهذه الاختلافات لا تضر بانسانیة الانسان.[24]
- الاعتراف بحقوق الأقليات
لا يوجد دين، كالإسلام يحرص علی ضمان الحريات للأقلیات ويحافظ على كرامتهم وحقوقهم القومية. إن الإسلام يوفر العدالة الاجتماعية بتمامها في البلد الإسلامي، ليس فقط للمسلمين، بل لجميع القاطنين في بلاده - مع ما يوجد بینهم من الاختلاف في الدين والعنصر واللغة واللون - وهذه إحدی المزايا الانسانية العظمی التي یعجز أي دين او قانون، غير الإسلام عن تحقيقها.
فالأقليات الدينية تستطيع العيش بحرية في البلاد والتمتع بالحقوق الاجتماعية والأمنية داخلیا و خارجیا، مثل المسلمين، من خلال عقد "عهد الذمة" والحصول علی الجنسیة والانتماء للبلد الاسلامي.
انّ القرآن الكريم يصرح بالسياسة العامة للإسلام فيما يتعلق بمراعاة حقوق الأمم والديانات الأجنبية الأخرى على النحو التالي: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ».[25]
اذن، فالإسلام يسمح للأقليات الدينية ومعارضي الإسلام بالعيش في المجتمع الإسلامي والتمتع بالحقوق الإنسانية؛ بشرط ألا يسببوا مشاكل للإسلام و ان لا يؤذوا المسلمين او يناهضوهم.
وفي آية أخرى يقول: «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».[26]
ونظراً لهاتين الآيتين، فإن السياسة العامة للإسلام في مایتعلق بالأقليات الدينية ومعارضي الإسلام هي كما يلي:
طالما الأقليات لا تتعدی حقوق المسلمين ولا تتآمر ضد الإسلام والمسلمين، فإنهم يتمتعون بكامل الحرية في البلد الإسلامي، وعلى المسلمين التعامل معهم بالعدل والاحسان، لكن إذا تواطئوا مع دول أخرى ضد الإسلام والمسلمين، فإنه يجب علی المسلمين التصدي لممارساتهم وعدم النظر الیهم بعین المودّة.
انّ حرّية الأقليات الدينية واحترامها في الاسلام، هي إلی درجة أنه إذا فعل أحد من أهل الذمة شيئًا مباحًا في دينهم ولكنّه محرّم في الشريعة الإسلامية، مثل شرب الخمر، فلن يتعرض أحد له؛ طبعاً ما دام لا يتظاهر بذلك. لكن إذا تظاهر بذلك الفعل، فسيتم محاسبته باعتباره انتهاكًا لقانون الحماية، وإذا ارتكب فعلًا يعتبر ممنوعًا أيضًا في دينهم، مثل: الزنا، واللواط وما إلى ذلك، فانّه لا فرق في ذلک بينه و بين المسلمين من حيث الحقوق، وللقاضي أن يفرض عليه الحد، مع أنه يستطیع تسليمه إلى أمته لمعاقبته وفقًا لقوانينهم الدينية.[27]
وفقًا للفقه الإسلامي، إذا رفع شخصان من أهل الذمة قضيتهما إلی قاض مسلم، فإن للقاضي مطلق الحرية في الحكم وفقًا لقواعد الإسلام أو الاعراض عنهما وإحالتهم إلی قوانينهم الخاصة. يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «فان جاؤك فاحكم بینهم أو أعرض عنهم».[28]
طبعا هذا لا يعني التخيير بأن يستخدم النبي(ص) رغباته الشخصية في اختيار إحدى هاتين الطريقتين، بل المراد من ذلک هو أن يراعي النبي(ص) الظروف، فيتدخل ويحكم إذا رأی الوضع یقتضي ذلک او كانت هناك مصلحة، وإن رأی غیر ذلک ترکهم و أعرض عنهم.[29] في هذا الصدد يمكن اعتبار مراعاة التعامل مع أهل الكتاب وعلاقاتهم مع المسلمين أحد المصالح. يستفاد من هذه الآية أن تعايش المسلمين وأهل الكتاب كان لدرجة أنهم كانوا يأتون النبي(ص) لأجل أن یحكم بينهم. إن العدالة قيّمة دائما ومع كل مجموعة. إذا تمّ انتخاب الحاكم أو الدولة الإسلامية للتحكيم والوساطة، فيجب عليها مراعاة العدالة، وأن لا تتأثر الاحکام بالمسائل العرقية الإقليمية أو التحيزات الجماعية أو الميول الشخصية والتهديدات.
- الاعتراف بالأنبياء والكتب السماوية
علی الرغم من الفوارق الموجودة بین الكتب السماوية في القضايا الفرعية وفقًا لقانون التكامل التدريجي، حيث انّ كلّ دين جديد يرتقي بالانسان إلى مرحلة أعلى ويشتمل علی خطة وبرنامج أكثر شمولاً، ولكن جميعها في الأساس متناسقة في المبادئ وتسعى إلى هدف واحد وهو تربية الانسان والسمو به الی مراتب الكمال المعنوي. إن القرآن الكريم في نفس الوقت الذي یعبر عن احترامه للأنبياء والكتب السماوية السابقة، فانه يصدّقها أيضا:
«وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّه...».[30]
لقد تم ذكر ما یقارب عشرين آية أخرى ايضا في تصديق التوراة والإنجيل.[31]
في الاساس، هذه سنّة الهیة بأن یقوم کل نبي بتصدیق النبي السابق وكل كتاب سماوي الكتاب السماوي السابق. يقول الله تعالى في ما يتعلق بتصديق موسى(ع) والتوراة بواسطة النبي والكتاب السماوي اللاحق، أي عيسى(ع) والإنجيل: «وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجيلَ فيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقينَ».[32]
- السلام الدولي
لقد وضع الإسلام أسس السلام منذ البداية، ومن خلال هذا الأمر مهد الطريق دائمًا للسلام الدولي والتعايش السلمي. في هذه السياق يكفي أن نعرف أن السلام هو روح الإسلام. كما قيل، إن كلمة "الإسلام" مشتقة من كلمة "السلم" وبالتالي فهي تتضمن معنى السلامة والهدوء. لذلك يأمر القرآن الجميع بالدخول إلى عالم "السلم والصلح ": «یا أیها الذین آمنوا ادخلوا فی السلم كافة...».[33]
إن "السلم" أفضل بكثير وأدوم من "الصلح". لأن السلم يعني السلامة والأمن وليس له مظهر صلح مؤقت.
إن الله تعالی يأمر الرسول(ص) بأنه إذا رغب اعداؤک في الصلح والسلام، فعليك استغلال الفرصة والاتفاق معهم: «و أن جنحوا للسلم فاجنح لها...».[34]
إن اهتمام الإسلام بالسلام بين البشر إلی درجة بحيث يبشر المؤمنين بأنه، ربما قد تنشأ بينهم وبين أعدائهم علاقة صداقة و مودة، بسبب سلوكهم السلمي: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَديرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحيم».[35]
ينقسم غير المسلمين إلى مجموعتين: مجموعة وقفوا بوجه المسلمين، وشهروا عليهم سيوفهم، وأخرجوهم قسراً من ديارهم، وملخص القول، انهم اظهروا العداء للإسلام وللمسلمين قولاً وفعلاً. فواجب المسلمين مقابل هذه المجموعة هو الامتناع عن أي اتصال وعلاقة ودّ وصداقة معهم. المصداق البارز لذلك هم مشركو مكة، ولا سيما سادات قريش، حيث قام بعضهم بايذاء المسلمین ومعاداتهم رسميًا، وساعدهم علی ذلک البعض الآخر.
أما المجموعة الثانية، على الرغم من كفرهم وشركهم، ما كانوا يضمرون عداءاً للمسلمین وماکانوا يقاتلونهم وأنهم ما قاموا في تهجيرهم وإخراجهم من دیارهم؛ حتى أن بعضهم قد عقد عهدا لنبذ الأعمال العدائية وترك الخصام مع المسلمين. فيجب علی المسلمين أن يوفوا بعهدهم لهذه المجموعة وأن يسعوا لإقامة العلاقة معهم علی أساس العدل والقسط. ومصداق هذه المجموعة قبیلة خزاعة التي عقدوا عهدا مع المسلمین علی المسالمة و ترك الخصام.[36]
و باختصار، إن الدفاع عن السلام والتعايش السلمي في السياسة الخارجية من أكثر البرامج حكمة وتقدمًا، وقد تبنى الإسلام هذا البرنامج، واما دعوته الی تعزيز قوة الدفاع فانها للحالات الضرورية. ان الإسلام يولي أهمية كبيرة للسلام والحياة السلمية لدرجة أنه يأمر بالسلام والمصالحة حتى في المجتمعات الصغيرة وفي النزاعات الأسرية: «و الصلح خیر».[37]
فیتبین أنّ كلّ ما سبق باختصار، هو موقف الإسلام تجاه حقوق الإنسان وحقوق الموطنین - المسلم وغير المسلم - في المجتمع والنظام الإسلامي، والذي يحتوي على أكثر القوانين تقدمية في عالمنا اليوم، ويمكن القول بجرأة أنه لم تتمكن أي من مدارس العالم والمنظمات الدولية من احترام حقوق الإنسان بهذا الشکل. فينبغي أن یقال، إذا کان هناک شخص في لباس الإسلام، سواءاً کان من المسؤولین کان أو غيرهم، وانتهک حقوق المواطنة، فإن ذنب عمله یعود إلیه، وليس إلى الإسلام.
[1]. البقرة، 29.
[2]. المائدة،32.
[3]. البقرة، 256.
[4]. یونس، 99.
[5]. الکهف، 29.
[6]. الانعام، 107.
[7]. فصلت، 53.
[8]. الذاریات، 20-21.
[9]. الرحمن، 1- 4.
[10]. الزمر، 17- 18.
[11]. العنكبوت، 46.
[12]. الانعام، 108.
[13]. الممتحنة، 8.
[14]. المائده، 42.
[15]. السیوطي، جلال الدین، الجامع الصغیر، ج 2، ص 473.
[16]. نفس المصدر.
[17]. الحدید، 25.
[18]. آل عمران، 64.
[19]. راجع: ناصر مکارم الشیرازي، تفسیر نمونه، ج 2، ص 594، طهران، دار الکتب الاسلامیة، الطبعة الاولی، 1374.
[20]. الحجرات، 13.
[21]. البقرة، 213.
[22]. استخدم تعبیر «بنی آدم» في عدد من الآیات، من جملة ذلک: الآیات 26، 27، 35 و 171 من سورة الأعراف و آیة 70 من سورة الأسراء.
[23]. الانفطار، 6؛ الانشقاق، 6 و قریب من 60 آیة أخری.
[24]. راجع: یاسر ابو شبانه، النظام الدولی الجدید بین الواقع الحالی و التصور الاسلامی، ص 542 – 543.
[25]. الممتحنة، 8.
[26]. الممتحنة، 9.
[27]. السبحاني، جعفر، مبانی حكومت اسلام، الترجمة، الالهامي، داود، ص 526 ـ 530.
[28]. المائدة، 42.
[29]. تفسر نمونه، ج 4، ص 386.
[30]. المائدة، 48.
[31]. بعض الایات: آل عمران، 50: «و مصدقا ما بین یدی من التوراة ....». النساء، 47: «یا أیها الذین اوتوا الكتاب بما نزلنا مصدقا لما معكم». مائده، 46: «فیه هدی و نور و مصدقا لما بین یدیه من التوراة ...». الصف، 6: «انی رسول الله الیكم مصداقا لما بین یدی من التوراة». البقره، 89: «و لما جاءهم كتاب من عندالله مصدق لما معهم». البقره، 101: «و لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم».
[32]. المائدة، 46.
[33]. البقرة، 208.
[34]. انفال، 61.
[35]. الممتحنة، 7.
[36]. تفسیر نمونه، ج 22، ص 31 ـ 32.