و لذلك فمن اللازم إثبات الفرض الأول من السؤال ابتداءً و بالاستعانة بالأدلة العقلية و التاريخية.

أ- الدليل العقلي:

من اللازم لتوضيح الدليل العقلي أن نضع أمامنا خارطة إجمالية لجغرافية المنطقة في غدير خم. و قعت حادثت الغدير في منقطة تسمى رابغ[1]، على بعد مائتي كليومتر من مكة المكرمة، و المنطقة تمثل مفترق أربعة طرق تتشعب إلى العراق، و المدينة[2]، و مصر، و اليمن، و لذلك فإن جميع الحجاج العائدين إلى بلدانهم بعد إتمام مناسك الحج لا محيص لهم من المرور في هذه المنطقة.

و أما بلحاظ العامل الزمني فلا بد من القول أن واقعة الغدير حدثت في الثامن عشر من ذي الحجة[3] و هو آخر أشهر السنة الهجرية العاشرة، و قد كان عدد الحجيج هو الأكثر في هذا العام ذلك لأن عدداً من الآيات القرآنية نزلت للتأكيد على أن الحج من شعائر الله، إضافة إلى التبليغ المستمر و الدعوة إلى الإسلام مما حمل الكثير من الناس إلى إعلان إسلامهم و الانضمام إلى هذا الدين الجديد.

علاوة على ذلك فإن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أصدر أمراً إلى الجميع بالإعلان و إخبار الناس أن النبي سيتوجه بنفسه إلى أداء فريضة الحج و يتولى تعليم الشعائر و إيضاح الأحكام بنفسه.[4]

كل هذه العوامل أدت إلى أن يكون عدد الحجاج هو الأكثر في هذا العام بالنسبة إلى الأعوام السابقة، و حيث أن واقعة الغدير كانت في منطقة رابغ مما يعني أن هذا الجمع الكبير لم يتفرق بعد، و لذلك كان ما وقع في غدير خم استعراضاً عظيماً و حدثاً جليلاً.

الدليل التاريخي:

فيما يخص البحث التاريخي، فمن الجدير بالذكر أن الكثير من الكتب السنية و الشيعية اعترفت بنقل حادثة الغدير[5]، و اعتبرتها من المسلمات التاريخية، يقول خليل عبد الكريم، و هو من كبار المعاصرين من أهل السنة في معرض بحثه عن جمع القرآن الكريم: إنّ عدد أصحاب النبي صلى الله عليه و آله في حجة الوداع (التي وقعت فيها حادثة الغدير) كان مائة و أربعة و عشرين ألفاً[6] و يقول ابن كثير: إنّ الأخبار و الأحاديث بخصوص واقعة غدير خم متواترة جداً، و نحن ننقل بعضها منها و بحسب الإمكان إن شاء الله تعالى.[7]

و بغض النظر عن الكتب التاريخية التي ذكرناها، فقد وردت الكثير من الروايات في معاجم الحديث عند أهل السنة التي نقلت حادثة الغدير، و تفاصيل وقائعها و قد نقل بعضهم الحديث بمضمون واحد و بطرق متعددة، و نذكر منهم النسائي بعنوان المثال، حيث نقل الحديث بمائتين و خمسين سنداً[8].

كل ما تقدم يمثل الشواهد على عظم حجم التواجد حين وقوع حادثة الغدير، مما لا يترك أي شك أو تردد لأحد سواء بخصوص أصل القضية و وقوعها أو عدد الصحابة الذين شهدوا الواقعة و اطلعوا على تفاصيلها.

و الآن نصل إلى القسم الثاني من السؤال: كيف يمكن لصحابة النبي الذين حضروا في غدير خم و شاهدوا و سمعوا كل وقائعها، و علاوة على كل ذلك مبايعتهم لعلي عليه السلام، و لا يمنعهم ذلك من مبايعه شخص آخر في السقيفة[9] لتولي هذا الأمر الإلهي.

و للإجابة عن هذا القسم من السؤال لا بد من القول أن ادعاء عدم الاعتراض من الصحابة بشأن حادثة الغدير لا عمومية له، و ليس قليلاً أولئك الصادقين الذين أصحروا بالحقيقة و واجهوا أصحاب السقيفة و حذروهم من هذا العمل الخطير.

كان الإمام علي عليه السلام مشغولاً في مراسم دفن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، و لم يتمكن من الوقوف بوجه مؤامرة السقيفة بترك أمر مهم كتجهيز النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و أما الآخرون من أمثال سلمان و أبي ذر و طلحة و الزبير[10] و ... فإنهم أعلنوا مخالفتهم و بسطوا ألسنتهم و لم يمدوا يد البيعة لأبي بكر، ولم يكتفوا بذلك، و إنما أقدم الزبير على تجريد سيفه بوجه الظالمين من أقطاب السقيفة.[11]

و أما أولئك الذين ينظرون إلى واقع الأمور بحذر كالعباس عم النبي فإنهم على رغم سكوتهم و عدم إعلان مخالفتهم للحفاظ على السلم و تجنب إراقة الدماء، إلا أنهم امتنعوا عن البيعة.[12] و أما عامة الناس ممن حضر في واقعة الغدير فلا يخرجون عن حالتين، إما أن يكون من المنتفعين مما جرى في السقيفة و ما تمخضت عنه من نتائج، مثل أقارب الانقلابيين و إما أن يكونوا أجبروا على الخضوع و السكوت بالترغيب و الترهيب، يقول الشيخ المفيد في هذا المضمون: قال عمر لجمع من الأعراب، اذهبوا و بلغوا الناس و احملوهم. على بيعة خليفة رسول الله، و من امتنع منهم فاعلوا رأسه بالسيف[13] و في نهاية الأمر بقيت مجموعة من الناس أقدمت على البيعة نتيجة الجهل و الخوف و ملابسات ذلك اليوم، و هؤلاء من شهد واقعة الغدير و لكنه توهم أن البيعة أخذت لعلي لا إلى أبي بكر لأنهم ظنوا أن أبا بكر هو علي الذي أخذت له البيعة في غدير خم، يقول الإسكافي في تاييد هذا القول: إن من جهل الناس و عدم معرفتهم في ذلك الوقت، كانوا يقولون: علي ابن الخطاب، عمر ابن أبي قحافة، عثمان ابن أبي طالب، و أبو بكر ابن عفان...[14]

المصادر:

1- غدير، سند گوياى ولايت" الغدير، وثيقة الشهادة على الولاية"، مجموعة المعارف و التحقيقات الإسلامية، قم، منشورات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، الطبعة الثانية، لعام 1380هـ.ش.

2- الغدير، الشيخ عبد الحسين الأميني، دار الكتاب العربي، المجلدات الأحد عشر.

3- التنبيه و الإشراف، المسعودي، المتوفى، 345، هـ.ق ط بمجلد واحد.

4- فرازهايى از تاريخ پيامبر اسلام" شعاع من حياة رسول الإسلام"، جعفر السبحاني، منشورات المشعر، الطبعة الخامسة، عام 1375 هـ.ش.

5- مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، الطبعة الثانية، المجلد 1، عام 1997 م.

6- تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن أبي واضح، طبعة دار صادر، بيروت.

7- البداية و النهاية، الحافظ ابن كثير الدمشقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1408هـ.ق.

8- معجم لغة الفقهاء، محمد القلعچي، المجلد 1.

9- أسرار آل محمد، سليم بن قيس الهلالي، منشورات الهادي، الطبعة الأولى، لعام 1375 هـ.ش.

10- فرائد السمطين، إبراهيم بن محمد الجويني الخراساني، بيروت، 1398 هـ.ق.

11- السقيفة و فدك، أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، منشورات مكتبة نينوى الجديدة، طهران.

12- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية.

13- الجمل، الشيخ المفيد رحمه الله، نقلاً عن المصدر التاسع.

14- الكافي، محمد صالح المازندراني، المتوفى 1081 هـ.ق.

15- المعيار و الموازنة، أبو جعفر الإسكافي، المتوفى 220 هـ.ق.

 


[1] المصدر الأول: ص7.

[2] المصدر الثاني: ص8.

[3] المصدر الثالث: ص222.

[4] المصدر الرابع: ص504.

[5] المصدر السادس، ج2، ص112.

[6] المصدر الخامس: ص20.

[7] المصدر السابع: ج5، ص213.

[8] المصدر الأول: ص15.

[9] السقيفة المكان المسقف بهدف التظليل، المصدر الثامن ص264.

[10] المصدر العاشر، ج2، ص82.

[11] المصدر الحادي عشر، ص50.

[12] المصدر الثاني عشر: ج1، ص73.

[13] المصدر الثالث عشر، ص59، المصدر الرابع عشر: ص260.

[14] المصدر الحادي عشر، مع قليل من التصرف و التلخيص، ص19-23.